الحاوی الکبیر فی فقه مذهب الامام الشافعی و هو شرح مختصر المزنی-ج16-ص122
ثم إذا اجتهد فقد اختلف أصحابنا هل يستبيح الاجتهاد برأيه أو يرجع فيه إلى دلائل الكتاب ؟ على وجهين :
أحدهما : أنه يرجع في اجتهاده إلى الكتاب ، لأنه أعلم بمعاني ما خفي منه من جميع أمته ، فكان اجتهاده بيانا وإيضاحا .
والوجه الثاني : وهو أظهر أنه يجوز أن يجتهد برأيه ولا يرجع إلى أصل من الكتاب ، لأن سنته أصل في الشرع مثل الكتاب قد ندب الله تعالى إليها ، فقال : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) [ الحشر : 7 ] وروي عن النبي ( ص ) أنه قال ‘ إنما اجتهد رأيي فيما لم ينزل علي فيه شيء ‘ .
واختلف أصحاب الشافعي في عصمة اجتهاد الأنبياء من الخطأ على وجهين :
أحدهما : أنهم معصومون في اجتهادهم من الخطأ لتسكن النفس إلى التزام أوامرهم بانتفاء الخطأ عن اجتهادهم .
وهذا مقتضى الوجه الذي يقال فيه أنهم لا يجتهدون إلا عن دليل من نص .
والوجه الثاني : أنهم غير معصومين من الخطأ فيه لوجوده منهم لكن لا يقرهم الله تعالى عليه ليزول الارتياب به وإن جاز أن يكون غيرهم من العلماء مقرا عليه ، لأن داود قد أخطأ في اجتهاده فاستدركه الله بأصابة سليمان ، واجتهد رسول الله ( ص ) في أسرى بدر بعد مشاورة أبي بكر وعمر ، وأخذ منهم الفداء فأنكره الله تعالى عليه بقوله : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) [ الأنفال : 67 ] .
وهذا مقتضى الوجه الذي يقال فيه إنهم يجوز أن يجتهدوا بالرأي من غير استدلال بنص .
وذهب ابن أبي هريرة إلى أن نبينا ( ص ) معصوم الاجتهاد من الخطأ دون غيره من الأنبياء ، لأنه لا نبي بعده يستدرك خطأه لانختام النبوة به وغيره من الأنبياء قد بعث بعده من يستدرك خطأه .
وهذا القول لا وجه له ، لأن جميع الأنبياء غير مقرين على الخطأ في وقت التنفيذ ولا يمهلون فيه على التراخي حتى يستدركه نبي بعد نبي فاستوى فيه جميع الأنبياء .
فهذا حكم اجتهادهم في أحكام الدين .
فأما أمور الدنيا فيجوز على الأنبياء فيها الخطأ والسهو روي أن النبي ( ص ) سمع ضجة بالمدينة فقال : ما هذا ؟ قيل : إنهم يلقحون النخل . فقال : ‘ وما ينفع ذلك أنهم لو تركوه لم يضرهم ‘ فبلغهم ذلك فتركوه فقل حمل النخل فقال عليه السلام : ‘ ما كان من أمر دينكم فردوه إلي وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به ‘ .