الحاوی الکبیر فی فقه مذهب الامام الشافعی و هو شرح مختصر المزنی-ج14-ص230
قال : ‘ لم تحل لي غنائم مكة ‘ والعنوة توجب إحلال غنائمها ، فدل على دخولها صلحا ، وفقدت أخت أبي بكر عقدا لها ، فذكرت ذلك لأبي بكر رضي الله عنه فقال أبو بكر : ذهبت أمانات الناس ، ولو حلت الغنائم لم يكن أخذه خيانة ، تذهب بها الأمانة .
فإن قيل : إنما لم تحل غنائمها ؛ لأنها حرم الله الذي يمنع ما فيه ، فعنه ثلاث أجوبة :
أحدها : أن عموم قول الله تعالى : ( واعلموا أنما ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه ) [ الأنفال : 41 ] يمنع من تخصيص الحرم بغير دليل .
والثاني : أنه لما لم يمنع الحرم من القتل ، وهو أغلظ من المال ، حتى قتل رسول الله ( ص ) من قتل كان أولى أن لا يمنع من غنائم الأموال ، ولو منعهم الحرم من ذلك لما احتاجوا من رسول الله ( ص ) إلى أمان .
والثالث : أن ما في الكعبة من المال أعظم حرمة ، مما في منازل الرجال
وقد روى مجالد عن الشعبي قال : لما افتتح رسول الله ( ص ) مكة و جد في الكعبة مالا كانت العرب تهديه ، فقسمه في قريش ، فكان أول من دعاه للعطاء منهم سعيد بن حريث ، ثم دعى حكيم بن حزام فقال : خذ كما أخذ قومك ، فقال حكيم : آخذ خيرا أو أدع قال : بل تدع قال : ومنك ؟ قال : ومني ‘ اليد العليا خير من اليد السفلي ‘ فقال : حكيم لا آخذ من أحد بعدك أبدا ، فلما لم تمنع الكعبة ما فيها وحرمة الحرم بها كان الحرم أولى أن لا يمنع ما فيه لكن لما كان ما في الحرم أموال لمن قد استأمنوه حرمت عليه بالأمان ، ولما لم يكن ما في الكعبة مال لمستأمن لم يحرم عليه بالأمان .
فإن قيل : إنما لم يغنمها ، وإن ملك غنائمها ؛ لأنه عفا عنها كما عفا عن قتل النفوس ، فهل يجوز له وللأمة بعده أن يعفو عن القتال ؛ لأنه من حقوق الله تعالى المحضة المعتبرة بالمصلحة ، وليس له وللأئمة بعده أن يعفوا عن الغنائم ، إلا بطيب أنفس الغانمين ؛ لأن من حقوقهم ، ألا تراه لما أراد العفو عن سبي هوازن استطاب نفوس الغانمين ، حتى ضمن لمن لم تطب نفسه بحقه ست قلائص عن كل رأس ، وما استطاب في غنائم مكة نفس أحد ، فدل على أنها لم تملك لأجل الأمان الذي انعقد به الصلح ، فلم يحتج فيها إلى استطابة النفوس ، وقد كان رسول الله ( ص ) ينفذ السرايا من مكة إلى ما حولها من عرفات وغيرها ، فيأتوه بغنائمها ؛ لأنها لم يكن لهم أمان .
ويدل على ذلك ما كان أبو حامد المروزي يعتمده أن نقل الموجب يغني عن نقل الموجب وموجب العنوة القتل والغنيمة ، وموجب الصلح العفو والمن ، فلما عفا ومن ، ولم يقتل ولم يغنم ، وأنكر حين رأى خالدا قد قتل كان هذا دليلا على الصلح ، ومانعا من العنوة وصار الصلح كالمنقول لنقل موجبه من العفو .