پایگاه تخصصی فقه هنر

الحاوی الکبیر فی فقه مذهب الامام الشافعی و هو شرح مختصر المزنی-ج2-ص388

قالوا : ولأن المعصية لو منعته من أكل الميتة عند الضرورة في سفره لاستباح بالمعصية قتل نفسه لأنه إذا امتنع من أكلها أفضى به الجوع إلى التلف وقتل النفس محرم عليه لقوله تعالى : ( ولا تقتلوا أنفسكم ) [ النساء : 29 ] ، ولأن معصيته لما لم تبح له قتل غيره لم تبح له قتل نفسه

والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى : ( حرمت عليكم الميتة والدم ) [ المائدة : 3 ] فأطلق تحريم الميتة عموماً ثم استثنى من جملة التحريم مضطراً ليس بعاص فقال تعالى : ( فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم ) [ المائدة : 3 ] أي غير مرتكب لمعصية فإن الله غفور رحيم . فوجب أن يكون العاصي المضطر كالطائع الذي ليس بمضطر في تحريم الميتة عليهما لعموم التحريم

وقال سبحانه : ( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ) [ البقرة : 173 ] . فحرم الميتة تحريماً عاماً ، واستثنى منه مضطراً غير باغ ولا عاد ، قال الشافعي : غير باغ على الإمام ولا عاد على المسلمين ، فإن قيل إنما أراد بقوله تعالى : ( غير متجانف لإثم ) [ المائدة : 3 ] أي : غير مرتكب لتناول ما زاد على سد رمقه ، وبقوله غير باغ أي غير طالب لأكل ما لا حاجة له إليه وبقوله ، ولا عاد ، أي : لا متعمد فيها بعد سد رمقه

قيل عن هذا جوابان :

أحدهما : استعماله في الأمرين وحمل على العموم في الموضعين

والجواب الثاني : وهو المرضي أن هذا التأويل لا يصح لأن الله تعالى أباح الميتة لمضطر غير باغ ولا عاد فلم يجز حمله على من زاد على سد رمقه ، لأنه غير مضطر والإباحة لمضطر على حق ، فعلم أن المراد بها عدم المعصية

ومن الدليل على ما ذكرنا : هو أن رخص السفر متعلقة بالسفر ومنوطة به فلما كان سفر المعصية ممنوعاً منه لأجل المعصية وجب أن يكون ما تعلق به من الرخص ممنوعاً منه لأجل المعصية

فإن قيل : هذا باطل بما جرح نفسه فعجزه عن القيام ، يجوز له أن يصلي قاعداً و وإن كان الجرح معصية ، وكذلك المرأة إذا ضربت بطنها فألقت ما فيه فإنه تسقط عنها الصلاة في مدة النفاس وإن كان الضرب معصية ، قلنا جواز القعود إنما يتعلق بالعجز عن القيام والعجز في نفسه غير معصية وإنما هو متولد عن الضرب الذي هو معصية ، وكذلك الصلاة إنما تقسط بوجود النفاس وليس النفاس معصية وإنما هو متولد عن الإسقاط الحادث عن سبب هو معصية فلذلك ما جوزناه وسبب هذه الرخص هو السفر لا غير وهو في نفسه