انوار الفقاهة-ج24-ص23
الثامن والأربعون: الأقرب أن السحر أكثره تخييل بمعنى أن العين تراه على غير الواقع وهو الأغلب بين الناس كما يدل عليه عجزهم عمَّا هو أضعف مما فعلوه من الغناء والإعتبار والقوة وحفظ أنفسهم من الغرق والقتل والضرب فدل على أن الأقوى فيه أنه تخييل لا حاصل له ويدل عليه قوله تعالى: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ) (طه آية 66) وقوله تعالى: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ) (البقرة 102 ) وقوله: (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ) (طه آية 69) لظهورها في نفي الفلاح في الدنيا والآخرة وقوله تعالى: (كَيْدُ سَاحِرٍ) (طه آية 69) وظاهر المكيدة أنها تخييل لا حاصل وقوله تعالى: (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) ولظهورها في أن السحر مؤثر في العين لا في الواقع ومنه تحقيق ويشير إليه بقوله: ( وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)(البقرة: من الآية102) بمعنى أن المضر منه إنما يضر إذا لم يبطل الله أثره كما أبطل الله نار إبراهيم فمعناه أن الله ترك السبب والمسبب على مقتضى السبية لأثر السبب أثره ويدل عليهِ ما ورد عن النبي (() أنه سحر عليه فأثر في بدنه فإنزل الله المعوذتين وفيهما (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) (الفلق:آية 4) هي ظاهرة في السحر ومن ادعى أن تأثير السحر مناف لمنصب النبوة وأن النبي عنده دعوات وإحراز ولا يمكن تسلط السحر عليه معها وأن النفس الشريرة لا يمكن أن تفعل بنفس النبي (() لخلوصها وتجردها وإنما تفعل في النفوس القابلة للأنفعال ورددناه أن تأثير السحر مالم يكن في العقل أو في شيء تنفر الطباع منه لا بأس به ودعوى أن تأثير السحر ينفُر الطباع منه لأن النبي ينزه عن تسلط الساحر عليه حيث أن تسلطه عليه مما يجوز تسلطه على عقله ومنه فتنفر عنه الطباع ويقال فيه: (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا) ( الإسراء آية 47 و الفرقان آية 8) ممنوعة عند سلامة عقله ودينه وبصره وحواسه المقر فقدانها بنبوته مطلقاً فهو كتأثير السم والمرض والحديد وأما الإحراز والأدعية فقد تقتضي المصلحة بعدم استعمالها أو استعمالها وعدم تأثيرها لعدم إذن الله تعالى بذلك كما وقع على الأوصياء من القتل والسم والحبس مع أنهم أهل علم الجفر والجامعة وهم أهل الدعوات المستجابات وأما تأثير النفس الشريرة فمسلم لو كان يخل بدين النبي (() كتسليط الشياطين أو بما يقضي بنقص نبوته وأما تأثيره بنفس جسمه فلا مانع منه وبالجملة فكون أن بعضه تحقيقي مشاهد بالوجدان والعيان وربما يشير إليه بقوله تعالى: (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا) ( الإسراء آية 47 و الفرقان آية 8) إن السحر كله تخييل لتأثيره بالوهم من المنفعل ظاهرة البطلان لأنه يؤثر فيمن لا يعلم كدعوى أن آثار الجن حقيقية قطعاً لإمكان كون الجن وفعلهم كله تخييل ولا أثر لذلك كما قال (منه) إنه من الخرافات ولو سلمنا لكان ما يرى الجن تخييل لهم والظاهر أن المسألة قليلة الثمرة وإن أمكن ظهورها في القصاص لأنه على التخييل لا قتل واقعاً وإنما يتراءى للناظر فلو بطل السحر لعاد حياً بل ولا دية مع احتمال أن القتل الذي يقاد به وتأخذ عليه الديه هو ما تراه العين ويترتب عليه آثار الموت وبالجملة فالتخييل في المؤثر لا ينافي العقر وبعد تحقق القتل بذلك التخييل وأما التخييل في الموت وفي الأثر فلا قود فيه وكذا لو أقر أني قتلته بالسحر عمداً أو أني قتلته خطأ مع احتمال أنه يؤخذ بإقراره مطلقاً وتظهر الثمرة في المقاصة في المال وتظهر في إمكان إبطاله بعد القتل وتلف الشيء فعلى التحقيق لا يتدارك وعلى التخييل له جهة انتظار .
التاسع والأربعون: يقتل المسلم المستحل السحر لأنه مستحل له ولو اجتمع معه كفر آخر كاعتقاده ربوبية الكواكب أو خلقها وتدبيرها على سبيل الاختيار وكذا لو اجتمع معه إهانة القرآن كوضعه في قاذورة أو إهانة عظم نبي أو سبُّ نبي من الأنبياء أو ذكر ما لا ينسب إلى جبار السماء ولا بقتل الكافر الأصلي به ولو تفرد للعمل فهل حده القتل أم لا ظاهر الأخبار الأول لأطلاق الكفر عليه ولأنه لو توقف على الاستحلال لساوى بقية المعاصي لأن الساحر كآلة اللهو يلزم أتلافه لمنافاته لمعاجز الأنبياء وعود الفاسد منه لأرباب الشرع ولما يظهر من بعض الأخبار ومن آية (هاروت وماروت) ومن كلام بعض العلماء أنه كفر مطلقاً وقد يقال إن الأخبار والآية على المبالغة كما ورد في تارك الصلاة في كثير من المعاصي وإعراض الأصحاب عن ذلك أقوى شاهد على ذلك وقوله: (هاروت وماروت) فلا تكفر الاستدلال به على الكفر لعدم ثبوت كونهما معصومين لما ورد أنهما خرجا عن العصمة لتغير خلقهما حيث جعل الله فيهما القوة الشهوية فعشقا امرأة وراوداها فرفعها الله ومسخها الزهرة وأنهما أخذا في تعليم الناس السحر ببابل وهما معلقان منكوسين بين السماء والأرض أو مراد فلا تكفر بما استلزم الكفر من السحر والأظهر في (هاروت وماروت) أنهما ملكان نزلا لتعليم الناس السحر والنهي عنه ولذا قالوا نحن فتنة ففعلهما كان للاختبار أو كانا يميزان للناس السحر من غيره لما فشا السحر ببابل لضعف الخبر الأول لاشتماله على المسخ إلى نجم في السماء ويقال بقاء المسوخ على الدوام ونسبة المعصية للملائكة وكله خلاف الظاهر وقد يقال إن السحر إن اتخذ صنعة ويداً أو أدعى صاحبه سلطاناً شرعياً كان حدّه القتل وإلا فلا جمعاً بين الأخبار.