انوار الفقاهة-ج24-ص18
الرابع والأربعون: مما يحرم التكسب به لحرمة فعله كتاباً وسنة وإجماعاً بقسميه (الغيبة) فيحرم أخذ المال لأجلها أو شرطها المصرح به أو الضمني وورد إنها أشد من الزنى وجعلها في الكتاب كأكل لحم أخيه الميت وجعلها النبي (() كأكل الكلب المنتن وفي الآية إشعار باختصاصها بالمؤمنين الأثنى عشرية لتصديرها بالذين آمنوا وتشبيهها بأكل لحم الأخ والأشعار لا ينكر وإن لم يلزم من التشبيه بلحم الأخ كون المستغاب أخاً وفي بعض الأخبار تعليق الحكم على لفظ المؤمن وهو لا يخلُو من إشعار بالمؤمن من لفظ الناس والمسلم وإن لم يحمل العام على الخاص في المثبتين كل ذلك لما دل على جواز سبهم ولعنهم وإظهار معايبهم فعلاً وتقريراً من أئمتنا (() وإنهم كالكلاب الممطورة وأن من قدم الجبت والطاغوت (ناصبي) وأنه اشر وانجس من الكلب وما وقع بين علي والحسن والحسين (() وبين كثير من الصحابة مع من قابلهم وأخذ منصبهم ما فيه بلاغ فما مال إليه المقدس الأردبيلي ومن تبعه من عموم حرمة الغيبة لغير الفرقة الأثني عشرية من المسلمين لا وجه له وموضوع الغيبة معروف بالعرف واللغة وليس من الموضوعات التي يطرقها الإجمال وحاصل معناها أن تقول أو تفعل فعلاً في أخيك يكرهه ويشينه ويسوؤه وينقضه بمعنى أن يكون من شأنه ذلك وعلى ذلك تنطبق عبارات اللغويين والرواية الواردة عن النبي ((): (أن تذكر أخاك بما يكره) وأن قريء بالمبني للمجهول أيضاً كان معناه أنه من شأنه أن يكره وإن فسره بذكر العيوب وما شابهه ومن قيد المنشأ نية تبين أنه لو لم يكره المستغاب الغيبة ولم تؤثر فيه نقصاً لجلالته وعدم مبالاته وعدم تأثير الغيبة فيه شيئاً من الأحوال التي هو فيها كان غيبته وكذا لو كره إظهار ماله أو عزة قدره وعلو شأنه وانتسابه للتقوى والصلاح والعفاف فذكر بذلك لم يكن غيبة وإن كره بيان ذلك نعم الظاهر من العرف واللغة قيد الغيبة في الغيبة فالحاضر يلحقه في الحكم لا في الاسم ومن فارقت روحه الدنيا كان كالغائب وإن كان قبل نقله لقبره ومن لا يسمع ولا يعقل كالمجنون فالظاهر أنه مشارك للغائب اسماً وحكماً ومن كان وراء جدار أو ستر كان غائباً وإن سمع في وجه وكذا أيضاً منها عمومها للقول والفعل وفي الرواية المعتبرة أن النبي (() قال لعائشة (لما أشارت إلى قصر امرأة بإيمائها بيدها اغتبتيها) مع احتمال الاقتصار بها على القول ومشاركة الفعل بها كتابة أو إشارة بالحكم لا بالاسم نعم يدخل في القول التنبيه والتعريض والمفهوم والفحوى ونحوها من دلالات الألفاظ الإلتزامية والظاهر دخول تحقق العيب فيه فلو لم يكن فيه كان كذباً كما تدل عليه الرواية بل ويقضي به كلام بعض أهل اللغة والعرف وكذا دخول وجود السامع لها وفهمه الخطاب فلو لم يكن سامعاً ولا فاهماً فالظاهر عدم الدخول في الحكم والاسم وكذا دخول التعيين في اسمها وحكمها مع احتمال الدخول في الاسم والخروج عن الحكم فلو ذكر لفظاً مجملاً بين محصور وغيره لم يكن فيه غيبه أو لم يكن محرماً وإن أمكن للسامع بعد السؤال معرفته وكذا لو قال رجلاً واحداً (من في الدار) (أو أحد أولاد فلان) والأحوط في المحصور التجنب أما لو عيَّنه باسمه الخاص، أو لقبه، أو كنيته، أو بوصفه من دخول وخروج أو مال أو حال بحيث لا يشاركه أحد كان غيبة حكماً واسماً وإن لم يعرفه السامع ولم يشاهده ولا يوصل إليه ولا يلاقيه إلى يوم القيامة ولو علقه على مستقبل كما يقول: (من دخل الدار هذا اليوم فهو فاسق) أو: (من يجلس معي بعد هذا المجلس فهو مغنٍ) كان غيبته حكماً واسماً ولو ذم أهل قرية فإن أراد العموم كان غيبة وإن أراد الأكثر كما هو الظاهر فالظاهر عدم دخوله في الاسم والحكم ولو ذكر أهل القرية فقال كلهم فسقه إلا واحداً كان غيبة حكماً واسماً على الظاهر والفرق بين هذا وبين ما تقدم ظاهر وتكون الغيبة بذكر الوصف الرديء والخلق الرديء والأفعال الرديئة والآثار الرديئة فكلما يفيد شنأً أو نقصاً أو عيباً ومهانة بنفي صفة حسن أو إثبات صفة قبح فهو غيبة وقد يستثنى مما ذكر من موضوع الغيبة وحكمها أو اسمها فقط أو حكمها فقط أمور وما شك في دخوله تحت الاسم أهون مما يشك في دخوله تحت الحكم لتمسك ذلك بأصل البراءة وافتقار هذا إلى تخصيص أدلة تحريم الغيبة فيحتاج إلى قوة المخصص ومبنى المسألة في التخصيص أما على قوة دليل المخصص ليحكم على العام وتكون المسألة في التخصيص إما على قوة دليل المخصص ليحكم على العام أو يكون بين الدليلين عموم من وجه ولكن يقوى العام الأخر بالمرجحات الخارجية على عموم النهي عن الغيبة والأمور منها المتجاهر في الفسق وهو فيما إذا تجاهر بجميع أنواع الفسق بحيث لا يتخفى في واحدة منها كثير من الفسقة وإن لم يستعمل الجميع فعلاً لكنه أعد نفسه لها وكذا فيما تجاهر فيه لا كلام فيه لفتوى الأصحاب وأخبار الباب كقوله (() (لا غيبة لفاسق) فإن الظاهر من حيثيته ما فسق فيه ولأن المتيقن من تخصيص أدلة تحريم الغيبة هو المتجاهر فيه وحمله على الفحص لا قائل به ولما ورد من أن تارك صلاة الجماعة يحل غيبته بناءً على حملها على صلاة الجمعة والمراد أنها فيما يتعلق بترك الصلاة لما ورد: (أن من ألقى جلباب الحياء عن نفسه فلا غيبة له) بناء على إرادة أنه من حيثيته ما خلع وأما لو تجاهر في كبيرة وتخفى في غيرها من المعاصي كأتباع الظلمة وكف العيوب فهل تجوز غيبته فيما تخفى فيه حكم بذلك جماعة أخذا بعموم تلك الأدلة فيخص بها أدلة تحريم الغيبة وهو قوي إلا أن الأول أقوى وأحوط لضعف العمومات سنداً وطرحة في العموم فلا يقاوم عمومات التحريم ومنها المتجاهر في عيب يعود نقصاً عليه كالجبن، والبخل، والتلاعب، والمزح، وسوء المنطق وإحداث الأصوات من فمه ومن دبره فإنه يجوز استغابته بهن لقوله ((): (من ألقى جلباب الحياء عن نفسه فلا غيبة له) وأما ما تخفى فالأظهر عدم الجواز لعموم أدلة التحريم ومنها ما كان فيه نهياً عن منكر إذا كانت الغيبة باعثة على انتهائه إذا وصل إليه الخبر ومنها ما كان كذلك إلا أنه لأجل أن ينهاه السامعون عن منكره ويردعوه عنه وهو مبني على تقديم عمومات من المنكر على أدلة تحريم الغيبة لأنه بمنكره كأنه أسقط احترامه كما أسقط احترامه في الزجر والضرب والإهانة وليس مما جاز فيه الحرام لرفع حرام آخركما قد يثبته لأن الله لا يطاع من حيث يعصى فلا يجوز لشخص أن يفعل حراماً لدفع منكر يفعله شخص آخر ومنها ما كان لحفظ نفس المستغاب وعرضه وماله فإنه يجوز لأن الضرورات تبيح المحظورات ومنها ما يكون تقية على نفسه وعرضه وماله لجواز هتك الأعراض ونهب الأموال في الضرورة والتقية فالاستغابة بطريق أولى ومنها ما تكون الاستغابة لنفسه للشك في شمول أدلة التحريم وإن اشترطنا الغيبة في الغيبة فهذا خارج عنها لنفسه ومنها جرح الشهود عند الحاكم ومنها جرح الرواة في كتب الرجال ومنها الشهادة على السّرقة والقذف في الزنا ونحوها عند الحاكم وهذه الثلاثة دل عليها الإجماع والأخبار والسيرة القطعية ومنها الشكاية من المظلوم إلى من يرجو رفع ظلمه فيما يظلمه وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع ومنها الشكاية عند من لا يرجى لرفع الظلم ومنها ذكر المظلوم معائب الظالم ولو في غير ما ظلم به وفي هذين بحث عموم الأدلة وكونه إلا من ظلم وبعض الأخبار ظاهرة في الاختصاص بما ظلم فيه عند من يرجو لرفع ظلمه ولا أقل أنها ليست صريحة في العموم ومنها الأستفتاء عن حال من صدر منه يحتاج السائل إلى معرفة حكمه كما تقول: (فلان غصب مالي فهل لي أن أقاصّه) أو (قذفني) أو (فلان صدرت منه كلمة فهل هي كفر) أو (فلان قال كذا فهل هو كبيرة) ويدل عليه فتوى الأصحاب ورواية هند عن النبي (() والأظهر لزوم الأقتصار على المجمل مهما أمكن فيقول شحص فعل كذا معي أو وقع منه كذا فما حكمه نعم لو توقف بيان الحكم على التعيين جاز ومنها نصح المؤمن عن آخر مخالطة أو مكالمة أو معاملة فيذكر عيوبه له والظاهر لو أمكن النصح بدون ذكر العيوب لزم وإن أطلق جماعة ذلك ومنها نصح المشتري لو كان مؤمناً بذكر معايب من استشير فيه صحبة أو معاملة ويدل عليهما ما دل على نصح المستشير بضميمة فتوى الأصحاب والسيرة القطعية وللنبوي في مشورة (فاطمة بنت قيس) في خطابها فقال لها معاوية صعلوك لا مال له وأبو الجهم لا يضع العصا عن عاتقه في غير المؤمن وجه قوي ومنها الكلام على المضيف إذا لم يحسن الضيافة فيما لم يحسن فيه لبعض الأخبار والأظهر المنع ويحتمل على المتجاهر في سوء الضيافة ومنها تحذير المؤمن عن الوقوع في الهلاك ديناً أو دنيا كتحذير الناس عن الرجوع إلى صاحب الطريقة الفاسدة كالأخباري ومن ليس له قابلية الفتوى ومن يجمع مزخرفات من بعض العلوم فيكون مقداماً لا قوام يتبعونه في مزخرفاته وخرافاته ودليله ما جاء في حق المؤمن على المؤمن من نصح ومودة وأنه يحب لأخيه كما يحب لنفسه والسيرة قاضية بالجواز ومنها ذكر شخص بوصف مشهور معروف به كفلان الأعرج أو الأعمى ولم يكن معروفاً به إذا كان لضرورة التعريف لكنه لا يخلو عن إشكال إلا أن يدخل تحت الضرورات المبيحه للمحضورات ومنها ذكر عيوب شخص للعالم بها لعدم دخول النقض عليه به وفيه إشكال لعدم دليل صالح لتقييد عموم النهي عن الغيبة بالنسبة إلى عالم بها ومنها نفي نسب من انتسب إلى غير نسبه سيما كبعض السادات لتحصيل الخمس أو لأنه يعلم اللزوم الخلل بترك البيان بالنسبة إلى الأحوال والمواريث والنفقات والأنكحة ومنها تفضيل بعض العلماء على بعض وإن استلزم نقص المفضول لجلالة قدره وعظم منزلته نعم قد تكون غيبة فيما إذا كان الغرض إحطاط قدر المفضول وإبانة حاله للناس ومنها ذكر ما لا عقل له ولا تمييز بما هو فيه كذكر المجانين وأطفال المؤمنين ويشكل ذكر عيوب الطفل فيما لا يتعلق بالطفولية من الأوصاف الذميمة وكذا المجنون وأشكل منه فيما لو ذكره بوصف منقص له بعد بلوغه وعقله لأن أطفال المؤمنين يلحقون بهم في الاحترام والغيبة هي ما من شأنها أن يسوء وينقص وإن لم يكن من الطفل والمجنون إدراك الإساءة والنقصان ومنها فعل الحسن من شخص فيدل على عيب الآخر بتركه له أو ترك القبيح منه فيدل على فعل الآخر له ودليله ظاهر إذا لم يكن القصد إلى ذلك ولو كان القصد إليه فالأحوط التخفي في إظهار ما لو صلى منفرداً عن جماعة شخص لإظهار إني لا أثق به أو معرض عن كلامه ورأيه وتقليده فهو غيبة وليته أخفى ما أظهر إذ ليس داعيه لا استغابة المنهي عنه ومنها ذكر بعض عياله وأولاده وأتباعه ببعض صفات ذميمة تأديباً لهم عنها أو يعود نقصها عليه أو يعود بقاؤها إلى ضرر عليه ديناً أو دنيا فتحاول زجرهم بذلك وردعهم عما هم فيه والسيرة قاضية به وفي بعض الأخبار (كخبر أم إسماعيل) دليل عليه وللتخلص من الضرر العائد إليهم وإليه ومنها ذكر عيوب المملوك لمشتريه ومنها ذكر عيوب المرأة لمن أراد نكاحها فإنه جائز للبائع وجائز للمشتري وجائز للمشار وجائز للمخطوب منه ودليله يعرف مما تقدم ومنها ذكر عيوب شخص وقد تاب عنها أو ذهبت فيقال كان فبان وتبدلت بأحسن منها وفي كتب الرجال كثير من ذلك منها ذكر معايب معروفة يقصد أبطالها وإرادة أن ربَّ مشهور لا أصل له ومنها أن يخبر عمن استغاب فتقول قال فلان إن فلاناً كذا نعم هو غيبة للقائل لا القول فيه ولو أجمل المخبر فقال قيل في فلان كذا أو قال من لا أسميه أو أعرفه كذا وكذا أو فلان لم يكن إلا إذا أستلزم هذا القيل نقصاً في المقول فيه لأنه:
قد قيل إن حقاً وإن كذبا
فما اعتذارك من شيء إذا قيلا
ومنها تعليق الذم بطائفة يعلم أنه لم يرد الجميع وإنما أراد الأغلب ومنها لو أرسل شخص شخصاً في أمر إلى ثالث فأجابه بفحش الكلام أو كلام محرم أو أبداً له ما يحرم نقله ابتداءاً جاز للرسول أن ينقل إليه الجواب وإن كان الجواب فسفاً وغيبة ومنها الرد على المستغيب ولو استلزم قدحاً فيه: (ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) ومنها ما يقع في مقام المناظرة ونقل الأقوال فيقول قال فلان كذا أو أفتى بكذا كان للآخر أن يقول أخطأ وغلط وما أصاب وعلى الأمرين جرت السيرة من العلماء وغيرهم إلا أن ابن إدريس أفرط حيث أنه يقول للشيخ كلام يضحك الثكلى كما أن الفاضل كذلك في رده حيث يقول جاهل مغرور معجب بنفسه لا يدري أين يذهب وهذان معاً إفراط وخير الأمور أوسطها ومنها كلام يقضي مع بعض في مقام المناظرة فيُخَطِّىء بعضهم بعضا وينسب كلامه إلى الخطأ والزلل وهذا جرت عليه السيرة ولا يدخل في اسم الغيبة لمكان الحضور ويجب الاستغفار على المستغيب فوراً إلا أنَّ التوبة عن المعصية واجب فوري والإصرار عليها كبيرة موبقة وهل يجب الاستغفار للمستغاب في بعض الأخبار ما يدل على وجوبه وإنه كفارة للمستغيب كلما ذكر المستغاب وهو مندوب لعدم العمل عليه وهل يجب طلب العفو من المستغاب وبراءة ذمة المستغيب وجه ولكن الأوجه ندبه لأن الظاهر أن حق الغيبة من الحقوق الإلهية ويحرم استماعها والإصغاء إليها لما فيه من المعاونة على الإثم وللأخبار الدالة على ذلك وفيها أنه أعظم وزراً من المستغيب إذا لم يرد سبعين مرة ويجب الرد على المستغيب للنهي عن المنكر وللأخبار الخاصة الآمرة بذلك فإن لم يسمع الرد كان ندباً والأولى القيام عن ذلك المجلس .