انوار الفقاهة-ج16-ص23
خامسهـا: ظهر مما ذكرنا عدم جواز التيمم لفريضة قبل وقتها وجوازه مع الضيق وإلا لانتفت فائدته إنما الكلام في جوازه مع السعة فقيل بالجواز مطلقاً وقيل بالمنع مطلقاً وقيل بالتفصيل بين اليأس من الماء أو البئر فيجوز مع السعة وبين الرجاء فلا يجوز والظاهر أنه لا فرق في الحكم بين كون المسوغ للتيمم هو فقدان الماء أو غيره من الأسباب لظاهر الاتفاق والمنقول من الوفاق وإن كان الظاهر من الأدلة والفتاوى تخصيص الخلاف بالفاقد احتج أهل التوسعة بقوله تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ(، حيث أوجب التيمم عند إرادة القيام من غير تفصيل بين السعة والضيق والجواب عنه بأن الاستدلال بها موقوف على جواز إرادة المكلف للصلاة حال السعة وهو أول الكلام مدفوع بأن تحريم الإرادة لا يستلزم عدمها والحكم معلق على وجودها لا على تحليلها وتحريمها والحق إن الآية من قبيل المجمل لأن المأمور به هو التيمم الصحيح وكونه في السعة صحيحاً أول المسألة واستندوا أيضاً لإطلاقات الكتاب والسنة الدالة على دخول الوقت بالزوال ونحوه ويتيمم العاجز استعمال الماء والصلاة بعده من دون تقييد وفيه نظر لأن جميعها مقيد بالتيمم الصحيح وفي كون التيمم صحيحاً مع السعة أول الكلام واستندوا إلى لزوم العسر والحرج في لزوم التأخير غالباً سيما للاعوام الغير العارفين آخر الوقت من انتصاف الليل وشبهه وسيما لأهل الأمراض والأغراض الذين يشق عليهم التأخير وإلى لزومه لتفويت كثير من المندوبات والأعمال وفيه أنه لا حرج ولا عسر في التأخير لسهولة الطريق إلى معرفة الوقت الأخير غالباً وما لم يعرف بالقطع فالطريق إليه الظن ولا يلزم من التأخير فوات المندوبات لأن المندوبات يجوز التيمم لها عند ضيق وقتها أو عند الحاجة إليها بل يجوز في السعة على وجه لاختصاص ظاهر الأخبار بالفريضة بل إن التيمم لها مما يسوغ الدخول في الفريضة لجواز صلاة الفريضة بالتيمم لغيرها في حال السعة على الأقوى على أن هذا المستدل ممن يقول بمضايقته لقضاء وعدم جواز الأداء لمن عليه قضاء ولم يركن إلى هذا الدليل للقول بخلافه واستندوا للأخبار الخاصة الدالة على أنّ من تيمم وصلى في السعة لا شيء عليه ولو كانت صلاته باطلة لوجبت عليه الإعادة ولزمه القضاء ففي الخبر أتيمم وأصلي ثم أجد الماء وقد بقي علي وقت قال: (لا تعد الصلاة) من دون إستفصال في أن التيمم كان مع ظن الضيق أو مع عدمه والموثق في رجل تيمم وصلى ثم أصاب الماء وهو في وقت قال: (مضت صلاته) والظاهر منها أن قوله (وهو في وقت) قيد لأصابة الماء لا للتيمم والصلاة لخلو القيد عن الفائدة وفي الآخر فيمن لا يجد الماء وتيمم وصلى ثم أتى بالماء (وعليه شيء من الوقت) يمضي على صلاته أم يتوضأ ويعيد قال: (يمضي) فإن الظاهر من قوله وعليه شيء من الوقت ومن قوله (ويعيد) بقاء الوقت والموثق فيمن تيمم وصلى ثم أصاب الماء وهو في وقت قال: (قد مضت صلاته)وفي الموثق الآخر ثم بلغ الماء قبل أن يخرج الوقت قال: (ليس عليه إعادة الصلاة) وهما ظاهران في أن القيد لبلوغ الماء وإصابته لا للصلاة والصحيح أصاب الماء وقد صلى بتيمم وهو في وقت قال: (تمت صلاته ولا إعادة عليه) والصحيح الآخر عن رجل يأتي الماء وهو جنب وقد صلى قال: (يغتسل ولا يعيد الصلاة) والصحيح الآخر أجنب فتيمم بالصعيد وصلى ثم وجد الماء قال: (لا يعيد) وفي الآخر (فإذا وجد الماء فليغتسل ولا يعيد) إلى غير ذلك من الأخبار الظاهرة في ذلك والصريح جملة منها ولا يعاد منها الصحيح فيمن تيمم وصلى فأصاب بعد صلاته ماء قال: (إذا وجد الماء قبل أن يمضي الوقت توضأ وأعاد وإن مضى الوقت فلا إعادة) والموثق فيمن تيمم وصلى ثم أصاب الماء قال: (أما أنا أنى كنت أتوضأ وأعيد) لحملها على الندب سيما والأخير ظاهر فيه على الإعادة في الأول لمكان نفس الصلاة بتيمم فتكون مندوبة لا لفعلها في السعة وإلا لكانت باطلة على القول بالمضايقة فتجب الإعادة في الوقت وخارجه وقد يؤيد الأخبار المتقدمة ما ورد من أن الإمام إذا كان مجنباً يتيمم ويصلي بالقوم إذ من البعيد تأخير صلاة المأمومين لأجله إلى عند ضيق الوقت مع تطهيره بالطهارة الاضطرارية فالظاهر منه أن صلاته واقعة في السعة وفي جميع هذه الأخبار نظر لأنها لم تدل على جواز التأخير نصاً بل غاية ما تدل على إمكان وقوعه وهو محتمل لوجوه: احدها لكونه جائزاً في السعة ويمكن أن يكون لظن الضيق ثم انكشفت التوسعة فإن الأقوى هاهنا الصحة ويمكن أن يكون للعلم أو الظن بعدم الماء فيكون الجواز مقصوراً على صورة خاصة ويمكن غير ذلك من الأمور المجوزة غاية ما في الباب إن في هذه الأدلة ظهور ما وهو لا يعارض النص الصريح الدال على المنع كما سيجيء لأن النص لا يعارض الظاهر واحتج أهل المضايقة والظاهر أنهم يريدون به الضيق إلا عن التيمم وأداء الفريضة تامة لا عن التيمم وأداء ركعة بالاحتياط وبالشهرة المنقولة بل المحصلة وبالإجماعات المنقولة وبالأخبار المتكثرة كصحيح ابن مسلم (إذا لم تجد الماء وأردت التيمم فأخر التيمم إلى آخر الوقت فإن فاتك الماء لم تفتك الأرض) وحسنة زرارة (إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت فإن خاف أن يفوته الوقت فليتيمم وليصلِ في آخر الوقت) ومفهومه أصرح من منطوقه والموثق (إذا تيمم الرجل فليكن ذلك في آخر الوقت فإن فاته الماء فلم تفته الأرض) وفي آخر أيتيمم ويصلي؟ قال: (لا حتى آخر الوقت فإن فاته الماء فلم تفته الأرض) وفي آخر (ليس ينبغي لأحد أن يتيمم إلا في آخر الوقت) وفي الجميع نظر لضعف الإجماع والشهرة بمصير أكثر المتأخرين إلى خلافهما ولمعارضة الأخبار بظاهر الأخبار المتقدمة فيجمع بينهما بحمل الأمر في هذه على الندب لكثرة استعماله فيه سيما مع ظهوره في بعض الأخبار من لفظ (لا ينبغي) ومن ما يظهر من بعض تعاليلها أيضاً احتج أهل التفصيل بأخبار أهل المنع لظهورها في أن التأخير لرجاء الحصول لقوله فيها فإن فاتك الماء لم تفتك الأرض وبأنه من المستبعد بعد حصول اليأس من الماء لزوم التأخير تعبداً لعدم الدليل الواضح عليه سوى الضعيف من الأخبار لأن الصحيح منها ظاهره أن التأخير لاحتمال حصول الماء لا للتعبد وبأنه جمع بين الأخبار الظاهرة في الجواز والأخبار الظاهرة في المنع والأقوى في النظر هو الركون لهذا التفصيل والأحوط التأخير مطلقاً والظاهر عدم الفرق في هذا الحكم بين جميع الأسباب المسوغة للتيمم لإطلاق بعض الأخبار المتقدمة وفتاوى بعض الأصحاب والإجماعات المنقولة في الباب كما أنه لا فرق في الصلوات المؤقتة بين كونها يومية أو غيرها وبين كونها فريضة أو نافلة راتبة لإطلاق بعض الأخبار المتقدمة ولإلغاء الفارق بينها نعم ما كان وقته بالعمر كالقضاء على القول بالتوسعة وكالنوافل المبتدئة وغير الصلوات مما لا وقت له فالظاهر عدم جريان الخلاف فيه بل يجوز التيمم عند إرادة فعله إذ من البعيد التزام وجوب تأخير القضاء إلى ظن الفوت لمن فرضه التيمم والتزام ترك النوافل المبتدئة وترك الأعمال المندوبة بل هو خلاف مذاق أهل الشرع والشريعة بل لا يبعد أن النوافل والأعمال كل الأوقات أوقات ضيق بالنسبة إليها فيشرع لها التيمم لذلك والأقوى على القول بالضيق إن من ظنه لإمارة في صحو أو في غيم فتيمم وصلى ثم انكشف فساد ظنه أنه يعيد لأن المشروط عدم عند عدم شرطه والظن مصحح للإقدام لا مثبت للصحة وذهب بعض إلى عدم وجوب الإعادة استناداً إلى أن المرء متعبد بظنه وفيه أن مورده جواز الإقدام لا صحة الفعل وإلى أن الامتثال يقضي بالإجزاء وفيه أن مورد ذلك هو الأمور الواقعية وإلى أن الأصل في الشرائط العلمية وفيه أن الأصل في الشرائط أن تكون واقعية وإلى ظاهر الأخبار المتقدمة النافية للإعادة بحملها على الصلاة والتيمم لظن الضيق وفيه أن الاستدلال بها فرع ظهورها في ذلك لا فرع حملها على ذلك.