بدایة المجتهد و نهایة المقتصد-ج1-ص93
شئ لا يدرك إلا بتقريب وتسامح بطريق الهندسة ، واستعمال الارصاد في ذلك ، فكيف بغير ذلك من طرق الاجتهاد ، ونحن لم نكلف الاجتهاد فيه بطريق الهندسة المبني على الارصاد المستنب منها طول البلاد ، وعرضها .
وأما المسألة الثانية : فهي هل فرض المجتهد في القبلة الاصابة ، أو الاجتهاد فقط حتى يكون ؟ إذا قلنا إن فرضه الاصابة ، متى تبين له أنه أخطأ ، أعاد الصلاة ، ومتى قلنا : إن فرضه الاجتهاد ، لم يجب أن يعيد ، إذا تبين له الخطأ ، وقد كان صلى قبل اجتهاده .
أما الشافعي : فزعم أن فرضه الاصابة ، وأنه إذا تبين له أنه أخطأ ، أعاد أبدا وقال قوم : لا يعيد ، وقد مضت صلاته ما لم يتعمد أو صلى بغير اجتهاد ، وبه قال مالك وأبو حنيفة ، إلا أن مالكا استحب له الاعادة في الوقت .
وسبب الخلاف في ذلك : معارضة الاثر للقياس مع الاختلاف أيضا في تصحيح أما القياس : فهو تشبيه الجهة بالوقت : أعني بوقت الصلاة ، وذلك أنهم أجمعوا على أن الفرض فيه ، هو الاصابة ، وأنه إن انكشف للمكلف أنه صلى قبل الوقت ، أعاد أبدا إلا خلافا شاذا في ذلك عن ابن عباس وعن الشعبي ، وما روي عن مالك من أن المسافر إذا جهل ، فصلى العشاء قبل غيبوبة الشفق ، ثم انكشف له أنه صلاها قبل غيبوبة الشفق أنه قد مضت صلاته ، ووجه الشبه بينهما أن هذا ميقات وقت ، وهذا ميقات جهة .
وأما الاثر فحديث عامر بن ربيعة قال : كنا مع رسول الله ( ص ) في ليلة ظلماء في سفر ، فخفيت علينا القبلة ، فصلى كل واحد منا إلى مراجعة وعلمنا ، فلما أصبحنا ، فإذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة ، فسألنا رسول الله ( ص ) ، فقال : مضت صلاتكم ونزلت :
( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله)
وعلى هذا ، فتكون هذه الاية محكمة ، وتكون فيمن صلى ، فانكشف له أنه صلى لغير القبلة والجمهور على أنها منسوخة بقوله تعالى :
( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام)
فمن لم يصح عنده هذا الاثر قاس ميقات الجهة على ميقات الزمان ، ومن ذهب مذهب الاثر ، لم تبطل صلاته .
وفي هذا الباب مسألة مشهورة ، وهي جواز الصلاة في داخل الكعبة .
وقد اختلفوا في ذلك ، فمنهم من منعه على الاطلاق ، ومنهم من أجازه على الاطلاق ، ومنهمن فرق بين النفل في ذلك والفرض .
وسبب اختلافهم : تعارض الاثار في ذلك ، والاحتمال المتطرق لمن استقبل أحد حيطانها من داخل ، هل يسمى مستقبلا للبيت ، كما يسمى من استقبله من خارج أم لا ؟ أما الاثر : فإنه ورد في ذلك حديثان متعارضان كلاهما ثابت .
أحدهما : حديث ابن عباس قال : لما دخل رسول الله ( ص ) البيت دعا في نواحيه كلها ، ولم يصل حتى خرج ، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة ، وقال : هذه القبلة .
والثاني حديث عبد الله بن عمر