الحاوی الکبیر فی فقه مذهب الامام الشافعی و هو شرح مختصر المزنی-ج16-ص299
ومن القياس أن من جاز سماع البينة عليه جاز الحكم بها عليه كالحاضر ، ولأن ما تأخر عن سؤال المدعى عليه إذا كان حاضرا يقدم على سؤاله إذا كان غائبا كسماع البينة .
فإن قيل : سماع البينة تحمل ، فجاز مع الغيبة كالشهادة على الشهادة .
قيل : التحمل لا تعتبر فيه الدعوى ، كما لا تعتبر في الشهادة على الشهادة ، وسماع البينة على الغائب يعتبر فيها تقدم الدعوى فثبت أنه للحكم دون التحمل .
ولأن أبا حنيفة قد وافق في القضاء على الغائب في مسائل هي حجة عليه فيما عداها :
فمنها أن رجلا لو حضر فادعى أنه وكيل لفلان الغائب في قبض ديونه وأنكر من عليه الدين وكالته فأقام الوكيل البينة بالوكالة حكم بها على الغائب وجعل للوكيل قبض الدين من الحاضر .
ومنها أن شفيعا لو ادعى على حاضر ابتياع دار من غائب يستحق شفعتها فأنكر الحاضر الشراء فأقام الشفيع البينة بالابتياع حكم على الغائب بالبيع وعلى الحاضر بالشراء وأوجب الشفعة للشفيع .
ومنها أن امرأة لو ادعت أنها زوجة فلان الغائب وأن هذا ولده منها وأقامت البينة وسألت أن يحكم لها عليه بنفقتها ونفقة ولدها في ماله الحاضر جاز للحاكم أن يحكم عليه بذلك وهو غائب .
ومنها أن حاضرا لو ادعى أنه باع عبده هذا على فلان الغائب وقد منعه ثمنه وأقام بذلك بينة حكم على الغائب بالشراء وباع عليه العبد وقضاه حقه من ثمنه .
ومنها أن عبدا لو قطعت يده فأقام البينة على أن مولاه الغائب أعتقه ليقتص من يده قضي على الغائب بعتقه وحكم له بالقصاص من يده إلى غير ذلك من أشباه هذه المسائل فكذلك فيما عداها .
فإن قيل إن هذا يتعلق بحاضر قيل فالحكم على الغائب وإن تعلق بحاضر فدل على أن الغيبة لا تمنع من نفوذ الحكم عليه لثبوته بالبينة .
ولأن في الامتناع من القضاء على الغائب إضاعة للحقوق التي ندب الحكام لحفظها لأنه يقدر كل مانع منها أن يغيب ، فيبطلها متواريا أو متباعدا ، والشرع يمنع من هذا لما روي عن النبي ( ص ) أنه قال : ‘ إن الله لا يمنع ذا حق حقه ‘ .
ولأن الغائب لو حضر لكان بين إقرار وإنكار فإن أقر فالبينة موافقة وإن أنكر فالبينة حجة فلم يكن في الغيبة مانع من الحكم بالبينة في حالتي إقراره وإنكاره .