الحاوی الکبیر فی فقه مذهب الامام الشافعی و هو شرح مختصر المزنی-ج16-ص164
قالوا ولأن المسلمين قد أجمعوا على أحكام عدلوا عن الأصول فيها إلى الاستحسان ، منها دخول الواحد إلى الحمام ، يستعمل ماء غير مقدر ، ويقعد فيه زمانا غير مقدر ، ويعطي عنه عوضا غير مقدر ، ويشرب من الساقي ماء غير مقدر ويعطي عنه عوضا غير مقدر ، ويشتري المأكول بالمساومة من غير عقد يتلفظ فيه ببدل وقبول ، وهذا مخالف للأصول ، وقد عمل المسلمون به استحسانا فدل على أن الاستحسان حجة وإن لم يقترن بحجة .
والدليل على فساد الاحتجاج بمجرد الاستحسان قول الله تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ذلك خير وأحسن تأويلا ) [ النساء : 59 ] فجعل الأحسن في التنازع ما كان مأخوذا عن أوامر الله ورسوله ( ص ) وكفى بالتنازع قبحا أن يكون مأخوذا من غيرهما .
وقال الله تعالى : ( لعلمه الذين يستنبطونه ) [ النساء : 83 ] فنفي العلم عن غير المستنبط . والاستنباط هو البناء على معاني الأصول دون الظن والاستحسان .
ولأن في الظن والاستحسان اتباع لهوى ، وقد قال الله تعالى : ( ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ) [ ص : 26 ] .
ولأنه لا يخلو أن يكون الحكم مجمعا عليه أو مختلفا فيه .
فإن كان مجمعا عليه ، وجب اتباع الإجماع فيه .
وإن كان مختلفا فيه فالله تعالى يقول : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) [ الشورى : 10 ] ولم يقل إلى الاستحسان ولأن الاستحسان بالدليل يوجب الاتفاق عليه .
والاستحسان بغير دليل يوقع الاختلاف فيه لاختلاف الآراء والله تعالى يقول : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كبيرا ) [ النساء : 82 ] فدل على أن الاستحسان من عند غير الله لوقوع الاختلاف فيه .
ولأنه لو كان الاستحسان بالعقل مغنيا في أحكام الشرع عن أصول الشرع لاستغنى بعقله عن الأمر والنهي ولجاز له أن يشرع في الدين بعقله من غير شرع ، والله تعالى يقول : ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) [ القيامة : 76 ] يعني : غير مأمور ولا منهي .
ولأن القياس أقوى من الاستحسان لجواز تخصيص العموم بالقياس دون الاستحسان فلم يجز أن يقدم عليه الاستحسان .