الحاوی الکبیر فی فقه مذهب الامام الشافعی و هو شرح مختصر المزنی-ج16-ص143
وأما ما استدلوا به من المعاني فأظهرها معنيان :
أحدهما : إن قالوا : قد استقر في فطر العقول أن العلوم المدركة بالحواس يعلم خفيها بما يعلم به جليها ، فما أدرك جليه بحاسة البصر لم يدرك خفيه إلا بها وما أدرك جليه بحاسة السمع لم يدرك خفيه إلا بها .
فوجب في أحكام الدين إذا أدرك جليها بالسمع أن يكون خفيها مدركا بالسمع .
والجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أن هذا هو القياس ، لأنهم اعتبروا أحكام السمع بأحكام الحس ، فأثبتوا بالقياس نفي القياس ، وهذا متناقض .
والثاني : أننا نجمع بين أحكام السمع ، وأحكام الحس فنجعل خفيها مأخوذا من خفي السمع كما كان جليها مأخوذا من جلي السمع ، فصارا مثلين .
والمعنى الثاني : إن قالوا : لو كانت الأحكام معلومة لم يجز أن توجد العلل إلا مع وجود أحكامها ، كما لا توجد العلل المعقولة إلا مع وجود أحكامها ، كالحي إذا ذبح فمات لما كان الذبح علة الموت لم يوجد الذبح إلا مع الموت ، فلو كانت شدة الخمر علة في تحريمه لوجب أن لا توجد الشدة في وقت إلا والتحريم متعلق بها في ذلك الوقت ، وقد كانت الشدة موجودة فيها وهي غير محرمة ، فإذا حرمت امتنع أن يكون تحريمها معلولا بالشدة ، وتعلق التحريم بالاسم دون العلة .
والجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أن هذا يرجع عليهم في تعليق الأحكام بالأسماء ، فقد تعلق بها التحليل في حال والتحريم في أخرى ، وقد جعل الله تعالى للأحكام أعلاما هي أسماء ومعان ، فلما لم يتوجه هذا الاعتراض على الأسماء لم يتوجه على المعاني ، وجاز أن تجعل المعاني علما للتحليل في حال وللتحريم في أخرى ، كما جاز أن تجعل الأسماء علما للتحليل في حال وللتحريم في أخرى ، فلم أبطلوا بهذا أن يكون المعنى علما للتحريم ولم يبطلوا أن يكون الاسم علما للتحريم ؟
والثاني : أن علل العقل موجبة لأعيانها فكانت أحكامها لازمة لعللها ، وأحكام السمع طارئة حدثت عللها بحدوثها ، فاختلفت علل العقل ، وعلل السمع لاختلاف معلولهما في أوائلهما ، وقد استقرت الآن أحكام السمع بارتفاع النسخ فساوت أحكام العقل في الأواخر وإن خالفتها في الأوائل ، فصارت أحكام السمع غير مفارقة لعللها كما كانت أحكام العقل غير مفارقة لها .
فإذا ثبت أن القياس أصل في الشرع تستخرج به أحكام الفروع من النصوص