الحاوی الکبیر فی فقه مذهب الامام الشافعی و هو شرح مختصر المزنی-ج16-ص125
وأما الفصل الثاني في وجوه الاجتهاد فهو لم يرد في الكتاب والسنة بيان حكمه ، فقد قيل إن الذي تضمنه كتاب الله تعالى من الأحكام مشتمل على نحو خمسمائة آية ، والذي تضمنته السنة نحو خمسمائة حديث ، ونوازل الأحكام أكثر من أن تحصى ولا تقف على هذا العدد ، ولا يجوز أن تكون الأمة مضاعة لا ترجع إلى أصل من كتاب ولا سنة توصلهم إلى العلم بأحكام النوازل ، وقد قال الله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) [ المائدة : 4 ] ، وروى المطلب بن حنطب أن رسول الله ( ص ) قال : ‘ ما تركت شيئا مما أمركم به إلا وقد أمرتكم به ولا تركت شيئا مما أنهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه ‘ .
فدلت الآية في إكمال الدين ودل الخبر في استيفاء الأوامر والنواهي ، على أن للأحكام المسكوت عنها أصولا في الكتاب والسنة يتوصل بها إلى معرفة ما أغفل بيانه فيهما وهو الاجتهاد فيما تضمنها من الأمارات الدالة ، واستخراج ما تضمنها من المعاني المستنبطة ليكون الدين قد كمل والأحكام قد وضحت ، فإن النصوص على الحوادث معدول عن استيعابه لأمرين :
أحدهما : أنه شاق في الإحاطة بجميعه .
والثاني : ليتفاضل العلماء في استنباطه .
فصح بهذين المعنيين أن يكون الاجتهاد في الشرع أصلا يستخرج به حكم ما لم يرد فيه نص ولا انعقد عليه إجماع .
وإذ قد مضى الاجتهاد في أعصار الأنبياء وجب أن يوضح اجتهاد العلماء فيما بعدهم ، وهو ينقسم على ثمانية أقسام :
أحدها : ما كان حكم الاجتهاد مستخرجا من معنى النص كاستخراج علة الربا من البر فهذا صحيح غير مدفوع عنه عند جميع القائلين بالقياس .
والقسم الثاني : ما كان مستخرجا من شبه النص كالعبد في ثبوت تملكه لتردد شبهه بالحر في أنه يملك لأنه مكلف وشبهة البهيمة في أنه لا يملك ، لأنه مملوك ، وهذا صحيح وليس بمدفوع عنه عند من قال بالقياس ، ومن لم يقل غير أن من لم يقل بالقياس جعله داخلا في عموم أحد الشبهين ، ومن قال بالقياس جعله ملحقا بأحد الشبهين .
القسم الثالث : ما كان مستخرجا من عموم النص كالذي بيده عقدة النكاح في قوله ( إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ) [ البقرة : 237 ] يعم الأب والزوج ، والمراد به أحدهما ، وهذا صحيح يوصل إليه بالترجيح .