الحاوی الکبیر فی فقه مذهب الامام الشافعی و هو شرح مختصر المزنی-ج15-ص382
لما حنث بشرب بعضه في النفي وجب أن يبر بشرب بعضه في الإثبات ، وعلى مقتضى قول المروزي لا يبر في الإثبات بشرب بعضه كما لا يحنث في النفي بشرب بعضه ، وإذا لم يبر صار محكوماً بحنثه ، لأنه لا سبيل إلى بره ، فصار كقوله : والله لأصعدن السماء ، يكون حانثاً ، لأنه لا سبيل له إلى البر وفي زمان حنثه وجهان :
أحدهما : عقيب يمينه ، لأن استحالة البر يمنع من تأخير الحنث .
والوجه الثاني : يحنث من أخر حياته ، لأن عقد يمينه على التراخي ، فكان تحقيق الحنث على التراخي .
قال الله تعالى : ( وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً ) ( المرسلات : 27 ) أي : عذباً ، ولا فرق إذا حلف لأشرب من ماء دجلة بين أن يشربه من إناء اغترف به وبين أن يشربه كرعاً بفيه كالبهيمة .
فأما إذا حلف ، لا شربت من دجلة ، فإن شرب منها كرعاً بفمه حنث بإجماع ، وإن اغترف منها بإناء وشرب من الإناء حنث عند الشافعي .
وقال أبو حنيفة : لا يحنث حتى يكرع منها بفمه ، ولا يبر إن اغترف بيده احتجاجاً بأمرين :
أحدهما : أنه لو حلف : لأشرب من هذا الإناء ، فاغترف من مائه ، وشربه لم يحنث كذلك إذا حلف لأشربت من دجلة ، فاغترف ما شربه من مائها لم يحنث بوقوع اليمين على مستقر الماء في الموضعين .
والثاني : أن الشرب منها حقيقة ، ومن مائها مجازٌ ، وحمل الأيمان على الحقيقة أولى من حملها على المجاز .
ودليلنا : أمور :
أحدها : أن الماء المشروب مضمر في اللفظ ، لأنه المقصود بالشرب ، كما يقال : شرب أهل بغداد من دجلة وأهل الكوفة من الفرات ، أي من ماء دجلة وماء الفرات فصار إضماره كإظهاره ، فلما كان لو حلف : لأشرب من ماء دجلة حانثاً فشربه منها على جميع الأحوال وجب إذا حلف ، لأشرب من دجلة أن يحنث بشربه منها على كل حالٍ ، لأن المضمر مقصود كالمظهر .