الحاوی الکبیر فی فقه مذهب الامام الشافعی و هو شرح مختصر المزنی-ج13-ص369
قال الماوردي : وأصل هذا قول الله تعالى : ( إلا الذين تابوا من قبل أن يقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ) [ المائدة : 34 ] فعطف بهذا الاستثناء على ما تقدم من حدود المحاربة ، فاختلف أهل العلم في المراد بهذه التوبة ، فحكي عن عبد الله بن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة : أنها الإسلام ، وهو قول من زعم أن حدود الحرابة وردت في المشركين ، ويكون معنى الآية : إلا الذين تابوا من شركهم وسعيهم في الأرض فساداً بإسلامهم ، فأما المسلمون فلا تسقط التوبة عنهم حداً وجب عليهم .
وذهب جمهور أهل العلم القائلون بأن حدود الحرابة وردت في المسلمين إلى أنها التوبة من قصاص الحدود ، واختلف من قال بهذا في أمان الإمام لهم ، هل يكون شرطاً في قبول توبتهم فحكي عن علي بن أبي طالب عليه السلام والشعبي وطائفة أن أمان الإمام شرط فيها ، ومن لم يؤمنه الإمام لم تسقط التوبة عنه حداً ، وذهب جمهورهم إلى أن أمان الإمام غير معتبر فيها ، والاعتبار بتأثيرها في الحدود أن يكون قبل القدرة عليهم .
واختلف من قال بهذا من صفة القدرة عليهم على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن يكون بعد لحوقهم بدار الحرب وإن كانوا مسلمين ، ثم عودهم منها تائبين قبل القدرة عليهم ، فإن لم يلحقوا بدار الحرب لم تؤثر التوبة في إسقاط الحدود عنهم ، وهذا قول عروة بن الزبير .
والثاني : أن يكون لهم في دار الإسلام فئة يلجأون إليها ويمتنعون بها ، فإن لم يمتنعوا بفئة لم تؤثر توبتهم في سقوط الحدود عنهم ، وهذا قول عبد الله بن عمر ، وعمرو بن أبي ربيعة بن أبي عبد الرحمن والحكم بن عيينة .
والثالث : وهو قول جمهور الفقهاء أن لا تمتد إليهم يد الإمام بهرب أو استخفاء أو امتناع ، فيخرجوا عن القدرة عليهم ، فتؤثر توبتهم فيما سقط عنهم ، ومن امتدت إليه يد الإمام فهو تحت القدرة عليه ، واختلف من قال هذا في رفعه إلى الإمام ، هل يكون شرطاً في القدرة عليه على قولين :
أحدهما : لا يكون شرطاً لأنه في الحالين قادر عليه .
والثاني : يكون شرطاً في القدرة عليه ؛ لأن النبي ( ص ) قال في سارق رداء صفوان : ‘ هلا قبل أن تأتيني به ، لا عفا الله عني إن عفوت ) واختلفوا فيما يسقط التوبة عنهم من الحقوق على ثلاثة مذاهب :
أحدها : وهو قول علي عليه السلام أنها تسقط عنهم جميع الحقوق لله عز وجل وللآدميين من الحدود والدماء والأموال ، روي أن حارثة بن زيد خرج محارباً فأخاف السبيل ، وسفك الدماء ، وأخذ الأموال ، وجاء تائبا قبل القدرة عليه ، فقبل علي عليه