الحاوی الکبیر فی فقه مذهب الامام الشافعی و هو شرح مختصر المزنی-ج11-ص413
والثاني : أن الحرمة تنتشر عن ارتضاع اللبن المخلوق لغذاء الولد ، وذلك مخصوص فيما خلقه الله تعالى غالبا من ألبان النساء دون الرجال ، وصار لبن الرجل أضعف حكما من لبن البهيمة التي لا ينتشر به حرمة الرضاع ، ولأن الرضاع تبع للولادة فلما كانت المرأة محل الولادة ، وجب أن تكون محل الرضاع ، وإذا لم تنتشر الحرمة بلبن الرجل فقد قال الشافعي : كرهت له إن كان المرضع بنتاً أن يتزوجها لاغتذائها بلبنه ، فإن تزوجها لم يفسخ نكاحه لعدم حرمته ، وإن أجرى على الخنثى حكم النساء وأبيح له التزويج بالرجال انتشرت الحرمة عن لبنه قبل التزويج وبعده ، لأن لبن النساء مخلوق للاغتذاء ، وليس جماع الرجل شرطاً فيه وإن كان سببا لنزوله في الأغلب فصار كالبكر إذا نزل لها لبن فأرضعت به طفلا انتشرت به حرمة الرضاع ، وإن كان من غير جماع فلو حكم بانتشار حرمة اللبن بما أجرى عليه من أحكام النساء وتزوج رجلاً ثم ذكر ميله إلى طبع الرجال ، وقال أنا رجل ، نظر فإن كان ذلك بما ادعاه من انتقال الشهوة لم يقبل منه ، لأنه متهوم فيه ، وكان على حكمه الأول في كونه امرأة ، وكان الزوج على نكاحه لكن يقال له : نختار لك في الورع أن تفارقها إن صدقتها ، وإن كان ذلك بالأمارات الظاهرة في البول والمني الذي لا يتهم فيه قبل منه ، ونقل عن أحكام النساء إلى أحكام الرجال وانفسخ نكاح الزوج ، وبطل ما انتشر من حرمة الرضاع ، وكرهنا له إن كان الولد بنتا إن يتزوجها وأبيح له أن يتزوج امرأة بعد أن تزوج برجل ، وإن كان على إشكاله فقد ذهب بعض أصحابنا إلى أنه إذا فات البيان بالأمارات الظاهرة والباطنة لتكافئها وعدم الشهوة المركوزة في الطبع صار نزول اللبن بياناً ، لأنه لا ينزل في الغالب إلا من امرأة فاعتبر الإشكال بالأغلب منهما لا اللبن وأجرى عليه أحكام النساء وانتشرت الحرمة عن لبنه ، وقد حكى هذا الوجه ابن أبي هريرة ، ومن ذهب إلى هذا اختلف عنه في ظهور اللحية هل يصير بياناً عند عدم البيان ؟ على وجهين :
أحدهما : يصير بياناً كاللبن .
والثاني : لا يصير بياناً ، لأنه لما لم يكن عدم اللحية دليلا على الأنوثة لم يكن وجودها دليلاً على الذكورية ، والذي عليه جمهور أصحابنا وهو الظاهر من مذهب الشافعي أنه لا يصير اللبن واللحية بياناً ، لأنهما قد يشترك فيهما الجنسان ، وإن كان نادراً فلم يصر بياناً ، وإذا فات البيان ودام الإشكال وارضع بلبنه مولوداً لم يحكم للبنه بانتشار الحرمة ، لجواز أن يكون رجلاً ، ولا يعدمها ، لجواز أن تكون امرأة ، وكان على الوقف ما بقي على الإشكال ، لأن ما من وقت يحدث إلا وقد يجوز أن يحدث فيه ما يزول به الإشكال فلأجل ذلك وقف والله أعلم .