الحاوی الکبیر فی فقه مذهب الامام الشافعی و هو شرح مختصر المزنی-ج5-ص12
ولأن البيوع أكثر مكاسب الصحابة ، وهي أظهر فيهم من الزراعة والصناعة .
ولأن المنفعة بها أعم ، والحاجة إليها أكثر ، إذ ليس أحد يستغني عن ابتياع مأكول أو ملبوس ، وقد يستغني عن صناعة وزراعة .
فإن قيل : فقد روى سلمان فقال : قال رسول الله ( ص ) : ‘ لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها ، فإن فيها باض الشيطان وفرخ ‘ فاقتضى أن يكون البيع مكروها ، ليصح أن يكون عن ملازمته منهيا .
قيل : هذا غلط ، كيف يصح أن يكره ما صرح الله بإحلاله في كتابه ؟ وإنما المراد بذلك أن لا يصرف أكثر زمانه إلى الاكتساب ، ويشتغل به عن العبادة حتى يصير إليه منقطعا ، وبه متشاغلا ، كما روي عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن رسول الله ( ص ) ‘ نهى عن السوْم قبل طلوع الشمس ‘ يريد أن لا يجعله أكبر همه ، حتى يبتدئ به في صدر يومه ، لا أنه حرام .
فإن قيل : فقد روي عن النبي ( ص ) أنه قال : ‘ يا تجار كلكم فجار إلا من أخذ الحق وأعطى الحق ‘ فجعل الفجور فيهم عموما ، ومعاطاة الحق خصوصا ، وليست هذه الصفات أجلّ المكاسب .
قيل : إنما قال ذلك ، لأن من البيوع ما يحل ، ومنها ما يحرم ، ومنها ما يستحب ومنها ما يكره ، كما روي عنه ( ص ) أنه قال : ‘ لو اتجر أهل الجنة في الجنة ما اتجروا إلا في البُر ، ولو اتجر أهل النار ما اتجروا إلا في الصرف ‘ قال ذلك استحبابا لتجارة البُر ، وكراهة لتجارة الصرف .
وقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله ( ص ) : ‘ من كان يبيع الطعام وليس له تجارة غيره ، حاط ، أو باع ، أو طاغ ، أو زاغ ‘ ، يريد بذلك كراهة التفرد بالتجارة في هذا الجنس .