الحاوی الکبیر فی فقه مذهب الامام الشافعی و هو شرح مختصر المزنی-ج1-ص338
وقال أبو حنيفة ماء البئر مخالف لغيره من مياه المصانع والأواني وإن ماتت في البئر عصفوراً وفأرة نزح من البئر عشرون دلواً وكان باقي مائها طاهراً ، وإن وقع ذنبها نزحت البئر كلها ، وإن مات فيها سنوراً ودجاجة نزح منها أربعون دلواً ، وكان باقي مائها طاهراً ، وإن ماتت فيها شاة نزح جميع مائها ، وكذا إن وقع فيها بول أو عذرة ، وكان من فرق بين ماء البئر وغيرها أن ماء البئر ينبع من تحتها فهو يدفع النجاسة إلى علوها ، وكأنه فرق بين الفأرة والسنور ، أن السنور يغوص في الماء أكثر من الفأرة فكان ما ينزح بموتها أكثر ، والشاة تغوص إلى قعر البئر ، فينزح جميع ما في البئر ، وهذا مذهب إن لم يعضده نص ، وليس فيه نص فهو أظهر فساد من أن يقام على فساده دليل ؛ لأن الماء النجس لا يطهر بأخذ بعضه فيكون المأخوذ منه نجساً ، والمتروك طاهراً وكيف تميزت النجاسة حتى صار جميعها في المأخوذ ، ولم يبق في المتروك شيء منها ، وتميزت الطهارة في المتروك ، ولم يبق في المأخوذ شيء منها ، وما انفصل بينه وبين من قلب ما قاله فجعل المأخوذ طاهراً ، والمتروك نجساً .
فإن قال : لأن المأخوذ من أعلاه وما ينبع من ماء البئر يدفع النجاسة إلى أعلى .
قيل : الدلو إذا نزل في البئر نزح جميع مائها ، ولم يترك طبقات الماء في البئر على حالها ، ثم كيف انتهى رفع النجاسة بما يقع من أسفلها إلى عشرين دلواً في أعلاها ، ولم يرتفع عنه ولم ينخفض منه ثم يقال له : لو جاز أن يكون ما نبع من أسفل الماء يرفع النجاسة إلى أعلاه ، أوجب أن يكون ما يصب عليه من أعلاه يحيط النجاسة إلى أسفله على قياس هذا القليل ، وأنتم لا تقولون به ، ثم يقال له : زعمت أن الفأرة لا تغوص في الماء بأكثر من عشرين دلواً من أين لك هذا ، ولم لا قلت مثله في ماء الغدير ، وما تقول إن شدت الفأرة بحجر حتى وصلت إلى قعر البئر ينبغي على قولك أن ينزح جميع مائها ولو شدت بخشبة حتى منعت من غوصها أن لا ينزح شيء منها ، وأنت لا تقول بهذين وتوجب نزح عشرين دلواً في الأحوال كلها ، ثم يقال له : ذنب الفأرة أقل غوصاً في الماء من جميع الفأرة وأنت تقول في ذنبها وهو أحد أعضائها أنه ينزح منه ماء البئر كله ، وينزح من الفأرة مع ذنبها عشرون دلواً من جملته ، ثم يقال له : زعمت أنه لو سقط الدلو الأخير من العشرين إلى ماء البئر صار نجساً ، فإن عاد فنزح منها دلواً واحداً صار طاهراً فهل يتصور في المعقول أن الدلو النجس الذي سقط في الماء خرج جميعه في الدلو المستقى منه حتى تميز بعد امتزاجه به ، ولأجل ذلك قال الجاحظ : لم أر دلواً أعقل من دلو أبي حنيفة يعني أنه يميز بين الماء الطاهر والنجس ، والجاحظ غير معذور بمثل هذه الخلاعة في أبي حنيفة مع فضله وتقدمه في علمه لكن تطرق باضطراب المذهب وذهابه إلى الاسترسال بهذا القول المستهجن فإن قال أبو حنيفة : إنما قلت هذا ؛ لأنه روي عن علي رضي الله عنه ، قيل قد روي عنه أنه أمر بنزح سبعٍ أو ثمانٍ ، وليست إحدى الروايتين في المصير إليها بأولى من الأخرى قال : إنه يجوز