ارشاد الطالب الی التعلیق علی المکاسب (ج1)-ج1-ص207
ويستدلّ على ذلك بمثل قوله سبحانه: «إذا جائك المنافقون قالوا نشهد أنّك لرسول اللّه واللّه يعلم أنّك لرسوله واللّه يشهد
أنّ المنافقين لكاذبون»(233) حيث لو كانت العبرة في الصدق والكذب مطابقة مضمون الكلام للخارج وعدمها، لما كان ما قال المنافقون
كذباً، وبأنّه لا ينسب الكذب إلى مثل ما يذكره الفقيه في رسالته العملية من الأحكام حتى فيما إذا كان المذكور فيها اشتباهاً
ومخالفاً للأحكام الواقعية. فلا يقال إنّ اخباراته كذب، وأنّه قد كذب، بل يقال إنّه أخطأ واشتبه، وذلك باعتبار أنّ ما يذكره فيها
مطابق لما يعتقده إلى غير ذلك ولكن لا يخفى ما فيه حيث إنّ الشهادة اظهار للعلم بالشيء والافتاء عبارة عن اظهار نظره واجتهاده في
الواقعة، فقول القائل اشهد بذلك هو بمنزلة قوله ان لي علماً ويقيناً به، فيكون الخارج الذي يقاس إليه مطابقة المراد وعدمها هو
الاعتقاد والعلم فمع تطابقهما يكون كلامه صادقاً وفي عدمه كاذباً، وكذا قول المفتي بأنّ الواقعة الفلانية حكمها كذا، اظهار لفتواه
ونظره في تلك الواقعة، ويكون خبره صادقاً مع كون خبره مطابقاً لنظره واجتهاده، حتى فيما إذا اشتبه وأدى إلى خلاف الحكم الواقعي
وهكذا وهكذا.
بقى في المقام أمر، وهو أنّ الواقع إذا كان من الأُمور الراجعة إلى الدين اعتقادياً أو عملياً، فالاخبار به من غير علم محرم كما يستفاد
ذلك من قوله سبحانه «اللّه أذن لكم أم على اللّه تفترون»(234) وبعبارة أخرى لا ينحصر المحرم بما كان الاخبار به على خلاف
الواقع، بل يعم إسناد شيء إلى اللّه سبحانه من غير حجة على انتسابه إليه تعالى بل إذا أظهر نظره في حكم الواقعة من غير حجة عليه
يكون اظهاره افتاء من غير علم فهو في نفسه محرم حتى فيما إذا أصاب الواقع اتفاقاً. ويدلّ عليه غير واحد من الروايات: (منها) ـ
صحيحة أبي عبيدة قال قال أبو جعفر (ع): «من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من اللّه لعنته ملائكته الرحمة والعذاب ولحقه وزر من
عمل بفتياه»(235) ونحوها غيرها وأمّا إذا كان الواقع من غير تلك الأُمور فالأخبار به مع الشك، من الشبة المصداقية للكذب، لما تقدم
من أنّ الميزان في اتصاف الخبر بالكذب مخالفة مضمونة للواقع، لا مجرد عدم العلم بمطابقته له. ولا يمكن الحكم بحرمة الاخبار مع
الشك واستظهارها ممّا ورد في حرمة الافتراء على اللّه ورسوله، فان حرمة الثاني لا تلازم حرمة الأول، ولكن مع ذلك لا تصل النوبة عند
الشك إلى أصالة الحلية، لدلالة بعض الروايات على حرمته، كرواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عن آبائه في حديث قال:
«ليس لك أن تتكلم بما شئت، لأنّ اللّه عزّ وجل يقول: «لا تقف ما ليس لك به علم»»(236) فانّ ظاهرها عدم جواز الاخبار بشيء مع
عدم العلم به، ولا يبعد اعتبارها سنداً. وفي صحيحة هشام بن سالم، قال: «قلت لأبي عبداللّه (ع): ما حقّ اللّه على خلقه؟ قال: أن
يقولوا ما يعلمون ويكفوا عما لا يعلمون، فإذا فعلوا ذلك أدّوا إلى اللّه حقّه»(237) وظاهرها أيضاً لزوم كف الإنسان عما ليس له به
علم، بل لو لم تكن في البين مثل الروايتين لكان مقتضى استصحاب عدم حدوث الشيء عدم جواز الاخبار بحدوثه.