انوار الفقاهة-ج19-ص59
رابعها انه أحد هذه الثلاثة مردداً بينهما وربما عبر عن مخالفة الظاهر بمخالفة الأصل فأراد بذلك ما يشمل الأمرين معاً لأن الأصل يطلق على الظاهر والمنكر في مقابل ذلك فمن ترك لو ترك أو وافق قوله الأصل أو الظاهر أو الجميع أو المركب من الاثنين كان هو المنكر وقد تجتمع الثلاثة في فقر ادعى غنياً وفيا مالاً في ذمته فأنكره وقد يختص بواحد ويسلب الباقي وقد تتعارض فيه فيصير مدعياً منكراً بالاعتبارين فللحاكم طلب البينة عليه من حيثية الدعوى واليمين من حيثية الإنكار وقد يغلب في حال الاجتماع أقواها كما يغلب مخالفة الأصل لموافقة الظاهر ويغلب ما لو ترك لترك للاثنين الباقيين وقد يرجع في الاجتماع إلى العرف فمن يسموه مدعياً والحال ذلك جرى عليه حكم المدعي وإلا جرى عليه حكم المنكر وهو الأقرب مثال ذلك لو اسلم الزوجان قبل الدخول فقال الزوج أسلمنا معاً فالنكاح باقٍ وقالت: أسلمت قبله فلا نكاح في الأول والثالث هي المدعية لأنها لو تركت الخصومة لتركت واستمر النكاح ولأنها تدعي تعاقب الإسلام والأصل عدمه لاستدعائه تقدم أحد الحادثين على الآخر والأصل عدمه وعلى الثاني هو المدعي لبعد المقارنة وكذا لو ادعت زوجة المؤسر وهي معه عدم الإنفاق وهو ينكره فإن قولها يوافق الأصل ويخالف الظاهر فهي مدعية على الأخير منكرة على الأول وعلى التفسير الأول مدعية وكذا لو ادعى المتلف الإعسار ولم يعلم ان عنده مال فانه منكر بالمعنى الثالث ولا مدعٍ ولا منكر بالمعنى الثاني وفي كونه مدعٍ أو منكر بالمعنى الأول وجهان من انه لو ترك ودعوى الإعسار لترك بمعنى لأخذ منه ما يقر به من المال ومن انه لو تركه الغريم ودعوى الإعسار لترك والحق الرجوع عنه المعارضة إلى العرف كما هو الشأن في كل ما أنيط الحكم فيه بأمر لفظي ولم يجيء بيانه في الشرع بل الظاهر ان تعاريف الفقهاء للكشف عن المعنى العرفي للفظ المدعي الذي ورد ان البينة عليه وان اليمين المردودة ذهبت بدعوى المدعي فكل منهم يتخيل ان العرف ينطبق على حدة أو ان العرف ينطبق على الجميع ولكن عند اجتماعها في واحد أو اجتماع اثنين يرجع أيضاً فيه إلى العرف فإن حكم العرف عليه باسم واحد جرى عليه حكمه وان حكم عليه بالاسمين جاز تعلق الحكمين به والذي يظهر في دعوى الزوجة عدم الإنفاق إنها هي المدعية كما إذا ادعت عليه عدم الإنفاق وعدم المضاجعة بخلاف ما لو كانت في مكان بعيد وكان معسراً وكان ظاهر حاله اللؤم والشحة وكذا في دعوى الإعسار انه هو المدعي إلا ان يوافق الظاهر في ذلك وكذا في مدعية الإسلام إنها هي المدعية لأنها تدعي انفساخ النكاح وبالجملة فيحكم أهل العرف بالمعنى الأول انه المدعي قطعاً كيف كان ولو عارضته المعاني الأخر كلاً أو بعضاً والأوجه ان يجعل مدار الفرق بين المدعي والمنكر على تحرير محل النزاع والخصومة فمن يدعيه هو المدعي ومن ينكره فهو المدعى عليه وهو المنكر ثم لا يلتفت إلى ما تتضمنه الدعوى من الإنكار إلى ما تضمنه الإنكار من الدعوى فكثيراً ما يتضمن أحدهما الآخر كما مر من الأمثلة بل كل منكر يدعي كذب المدعى وخطأ المدعي ينكر ذلك وقد حكم جملة من أصحابنا فيما إذا كان البيع بالمشاهدة السابقة على وجه يصح معه البيع ثم طرى فيه صفة نقص فأختلف المتبايعان فقال المشتري : إنها لم تكن يوم شاهدته فلي الخيار فقال البائع : بل كانت فلا خيار بأن القول قول المشتري بيمينه لأنه هو المنكر لأن البائع يدعي علمه بهذه الصفة وهو ينكره واحتمل بعضهم العكس احتمالاً مع ان النزاع إنما وقع في التغير فالمشتري يدعيه والبائع ينكره وادعاؤه على المشتري العلم بهذه الصفة لا يخرجه عن كونه منكراً في هذه الخصومة بحيث لو ترك لترك وقد يقال ان الابتياع بالوصف أو بالرؤية السابقة إنما يتم إذا كان على ما رأى والشأن فيه والبائع يدعي ذلك فكان هو الذي لو ترك لترك إلا انه يضعفه تعارض اصلي عدم التغير وعدم استيفاء الحق فلا وجه لترجيح الثاني مع ظهور ان الأول ارجح لأصالة صحة العقد ولتسمية أهل العرف له بعد تحقق البيع انه هو المدعي ومما يشكل فيه الفرق بين المدعي والمنكر ما إذا كان المبيع مما يكفي في قبضه التخلية فوجداه بعد العقد والتخلية تالفاً فادعى البائع ان التلف كان بعدهما والمشتري انه كان قبل العقد والأظهر هنا كون المشتري هو المنكر لأصالة عدم انتقال الملك وعدم استيفاء الحق وكان مبنى الفقهاء في هذه وفي الأولى على تقديم قول المشتري لأصالة عدم وصول الحق وعدم الالتفات إلى أصالة صحة العقد من جهة ان البيع إنما كان بالوصف وبالرؤية السابقة ولما يتم إلا بتسليم بقائه على ما كان أو يقال ان الحكم يدور مدار بقائه وهو ثابت بالاستصحاب ولو لم يتخاصم المتداعيان بل طلبا الفتوى أفتى لهما المفتي بما ترجح لديه من الحكم بالضمان على المشتري لأصالة تأخير الحادث وأصالة صحة العقد والتخلية وعدم تأثير احتمال تقدم التلف عليهما أو على أحدهما أو على البائع بناء على أصالة عدم وصول الثمن إلى المشتري وعدم تحقق شرط الصحة وكذا الحال في كل موضع لا يدعي المدعي فيه حتى يتضح له الحال واعلم ان المراد بخلاف الظاهر هو الظاهر لدى أهل العرف بحيث يكون خلافه أمراً نادراً لا مجرد ظهور الحال عند الحاكم أو عند بعض الناس ولا كونه أظهر من غيره وإلا لزم ان تكون كثير من الدعاوى لا يتميز فيها كون الظاهر مع المدعي أو مع المنكر بل المنكر كثيراً ما يخالف الظاهر وأيضا فقد يكون كل واحد من المتداعين مدعٍ ومنكر فللحاكم ان يطلب من كل منهما البينة وله ان يطلب اليمين كذلك مع عدم البينة فلا بد من التأمل .