الفقه علی المذاهب الاربعة-ج5-ص2048
وقل أبن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم على ذلك، لأن العقل أشرف المعاني، والأعضاء، وبه يتميز الإنسان عن البهائم، ويعقله عن الوقوع في الدنايا، والمراد العقل الغريزي الذي به التكليف دون المكتسب الذي به حسن التصرف، ففيه حكومة، فإن رجي عوده في المدة المذكورة انتظر، فإن عاد فلا ضمان، كما في سن من لم ينفر، وفي إزالة بعضه بعض الدية بالقسط إن ضبط بزمان كأن كان يجن يوماً، ويفيق يوماً، أو بغيره، كأن يقابل صواب قوله، وفعله بالمختل منهما، وتعرف النسبة بينهما، فإن لم ينضبط فحكومة يقدرها الحاكم باجتهاده، فإن ما في أثناء المدة المقدر عوده فيها وجبت ديته كاملة، ولا يجب القصاص فيه للاختلاف في محله، فقيل محله – القلب – وقيل: الدماغ وقيل: مشترك بينهما، والأكثرون على الأول، وقيل: مسكنه الدماغ وتدبيره القلب، ويسمى عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، ولا يراد شيء على دية العقل أن زال بما لا أرش له، كأن ضرب رأسه، أو لطمه لكن يجب تعذيره في الأصح.
فإن زال العقل الغريزي بجرح له أرش مقدر كالموضحة، أو حكومة كالباضعة، وجبت الدية والأرش، أو الدية والحكومة معاً، ولا يندرج ذلك في دية العقل لأنها جناية أبطلت منفعة غير حالة في محل الجناية، فكانت كما لو أوضحه فذهب سمعه، أو بصره، وكما لو انفردت الجناية عن زوال العقل، وعلى هذا لو قطع يديه وجليه، فزال عقله بذلك لزمه ثلاث ديات.
ولو ادعى ولي المجنون زوال عقل المجني عليه، وأنكره الجاني، ونسبه إلى التجانن، اختبر في عقله، فإن لم ينتظم قوله، وفعله في خلواته فتجب له دية بلا يمين، وهذا في المجنون المطبق، أما المجنون المنقطع فإنه يحلف في زمن إفاقته، فإن انتظم قوله وفعله حلف الجاني، لاحتمال صدور المنتظم اتفاقاً، أو جرياً على العادة، والاختيار لا يقدر بمدة، بل إلى أن يغلب على الظن صدقه، أو كذبه، ولا بد في سماع دعوى الزوال، من كون الجناية تحتمل زوال العقل. وإلا لم تسمع الدعوى، كحصول الموت بصعقة خفيفة وفي إزالة السمع تجب دية كاملة، لخبر البيهقي (في السمع الدية) ونقل أبن المنذر فيه الإجماع ولأنه من اشرف الحواس، فكان كالبصر، بل هو أشرف منه عند أكثر الفقهاء، لأن به يدرك الفهم، ويدرك من الجهات الست، وفي النور والظلمة، ولا يدرك بالبصر إلا من جهة المقابلة، وبواسطة من ضياء أو شعاع، وقال أكثر المتكلمين بتفضيل البصر عليه، لأن السمع لا يدرك به إلا الأصوات، والبصر يدرك الأجسام والألوان، والهيئات فكان أشرف منه، ولا بد في وجوب الدية من تحقق زوال السمع، فلو قال أهل الخبر: يعدو وقدروا له مدة لا يستبعد أن يعيش إليها انتظرت، فإن استبعد ذلك، أو لم يقدروا مدة أخذت الدية في الحال. وإن قالوا: لطيفة السمع باقية في مقرها، ولكن انسد منفذ السمع، والسمع باق وجبت فيه حكومة.
وقيل: يعتبر في طريق معرفة السمع الدلائل الموصلة إلى ذلك، فإن لم يحصل العلم بذلك يعتبر في الدعوى والإنكار، فطريق معرفة السمع أن يتغافل وينادى عليه، فإن أجاب على أنه يسمع، ولا دية له.