الفقه علی المذاهب الاربعة-ج5-ص1962
والتوبة الصادقة النصوح تنتظم في معان ثلاثة تؤدي إلى تطهير القلب، بل والجوارح أيضاً، من أدران الذنوب، وأوساخ الخطايا، وهذه المعاني الثلاثة هي معرفة ما في الذنب من الإضرار بالنفس، والابتعاد عن ساحة الرحمة، ومنزلة الرضوان، وإنه لا يقدم عليه إلا عدو نفسه، الذي غلبت عليه شهوته، فلا تحصل التوبة دون أن يتحقق هذا المعنى تحققاً يقيناً، وعلماً حضورياً يشبه علمك أن في هذا الطعام الذي اشتهيته سماً مهلكاً، قاتلاً يخبرك به الطبيب الثقة، فماذا يكون حالك وقد تورطت فأكلت الطعام اشتهاء أليس يدركك من الندم والحسرة ما ترتبك معه، وتخور له قواك، ألست تشعر حينئذ بحالة اكتئاب وحسرة على ما فرط منك، تغلب عليك لذتك ابتئاساً – وفرحتك حزناً، فهذا هو المعنى الثاني وهو الندم على ما وقع منك، وليس مجرد الندم والحسرة ويقف الشخص مبهوتاً غير مفكر إذا كان من أهل الصيرة كلا بل لا يسمى نادماً حقيقة، ويصدق في دعواه أنه ندم حتى يترتب على ندمه أثره الصحيح، وذلك فعل يتعلق بما مضى، وبما هو حاصل، وبما يستقبل من الزمان، فيقلغ عن الاستمرار في تناول ذلك الطعام الشهي حالاً، ويعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل، وعمل على تخليص معدته مما سبق منه إليها في الماضي، حتى يستريح باطنه من هذا السم القاتل، هكذا شأن التوبة من الذنوب والخطايا، ومقياس النندم أن يؤتي هذه الثمار الثلاث وهي:
اولاً الإقلاع فوراً عن الاستمرار في الذنب الحالي، ثانياًـ العزم على أن لا يعود في المستقبل أبداً، ثالثاً المبادرة إلى التخلص مما فرط منه في الماضي.
ومن ذلك أن ترد الحقوق إلى اصحابها، وهذه هي التوبة الصحيحة المطهرة، المقبولة حاماً كما وعد اللّه جل شأنه، ووعده لا يخلف، وهذا معنى قولهم: التوبة تنتظم من علم، وحال، وعمل. والعمل يتعلق بالحال، والاستقبال، والماضي.
والإصلاح هو إزالة الخلل، والفساد الطارىء على الشيء، والمراد هنا في الآية إصلاح دات البين التي أفسدها بينه، وبين من قذفه، وذلك بأن يستسمحه مما فرط منه في حقه حتى يسامحه، وذلك شأن التوبة والتخلص من حقوق العباد.
وقال بعض العلماء: غنه من مضى مدة عليه في حسن الحال تقبل شهادته، وتعود ولايته، ثم قدورا تلك المدة بسنة حتى تمر عليه الفصول الأربعة التي تتغير فيها الحوال والطباع، كما يضرب للعنين أجل سنة. وأما قوله تعالى: من بعد يذلك
فالتوبة لا تكون إلا بعد الذنب، فإن سره التهويل في المر وتفظيع ما وقع فيه وتكبيره.
مبحث قبول توبة القاذف
الحنفية قالوا: لا تقبل شهادة المحدود في قذف وإن تاب توبة صادقة وحسنت توبته لقوله تعالى: ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً
ولأن رد شهادته من تمام الحد، لكونه مانعاً فقى بعد التوبة كأصله، بخلاف المردود في غير القذف لأن الرد للفسق، وقد ارتفع بالتوبة.
وأصله: أن الاستثناء إذا تعقب جملاً متعاطفة، هل ينصرف إلى الكل، أو إلى الجملة الأخيرة؟.
فالحنفية قالوا: إن الاستثناء ينصرف إلى الجملة الأخيرة فقط، وقد تقدم في الآية ثلاث جمل هي قوله تعالى: فاجلدوهم
وقوله ولاتقبلوا لهم شهادة أبداً
وقوله تعالى وأولئك هم الفاسقون
والظاهر من عظف، ولاتقبلوا
أنه داخل في حيز الحد، للعطف مع المناسبة، وقيد التأبيد، أما المناسبة: فإن رد شهادته مؤلم لقلبه، مسبب عن فعل لسانه، كما أن آلم قلب المقذوف بسبب فعل لسانه، وكذا قيد التأبيد لا فائدة له إلا بأبيد الرج، وإلا لقال: ولا تقبلوا لهم شهادة وأولئك هم الفاسقون
جملة مستأنفة لبيان تعليل عدم القبول، ثم استثنى الذين تابوا، وهذا لأن الرد على ذلك التقدير ليس إلا للفسق، ويرتفع بالتوبة، فلا معنى للتأبيد، على تقدير القبول بالتوبة.