الفقه علی المذاهب الاربعة-ج5-ص1930
لقد أثار الملاحدة شبهة على حد الشرقة، وطعنوا في أحكام القرآن الكريم، وقالوا: لونفذنا حد السرقة لشوهنا نسف المجتمع، وقضينا على عدد كبير من أبناء البشرية الذين تشل حركتهم، ولرأينا جيشاً جراراًمن العاطلين والمشوهين الذين قطعت أطرافهم بحد السرقة، والرد على هذه الشبهة يسير جداً، وهو أن تقول لهم: انظروا إلى المجتمع الذي كان في عهد رسول اللّه صلوات اللّه وسلامه عليه، وعهد الخلفاء الراشدين، والأمن الذي كان ينتشر فيه، والسعادة التي كانت ترفرف عليه حين كانوا ينفذون أحكام الشرعة بدقة من غير إهمال.
وقارنوا بينه وبين المجتمع الذي نحن فيه مع وجود المال، وانتشار الحضارة والمدنية في كل مكان. ولكن الأمن غير مستتب، والناس غير آمنين على أموالهم وأنفسهم، والفاسد قط عم كل مكان، والسرقات من الأفراد والجماعات و الحكومات سراً وعلانية، بل إن العصابات تسطو على الناس في الشوارع والطرقات في الليل، ورابعة النهار، وفي الممحلات والسيارات والمركبات وذلك كله لعدم تنفيذ حدود الإسلام، والتمسك بأحكام الشريعة الغراء.
فتنفيذ حد السرقة هو العلاج الوحيد لهذه الفوضى التي نعيش فيها في هذا الزمان. كما أنهم طعنوا في أحكام الشريعة وقالوا جهلاً منهم إن اليد إذا اعتدي عليها تقوم في الدية بخمسمائة دينار من الذهب الخالص. فكيف تقطع في ثلاثة دراهم وهو مال حقير، وقد ذكروا أن ابا العلاء المعري لما قدم بغداد اشتهر عنه أنه اورد إشكالاً على الفقهاء، في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار، ونظم في ذلك شعراً دل على جهله، وقلة عقله فقال:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض حالنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار
ولما قال ذلك واشتهر عنه تطلبه الفقهاء، فهرب منهم، وقد أجابه الناس في ذلك بأجوبة كثيرة، وكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه اللّه تعالى أن قال: (لما كانت أمينة كانت ثمينة، ولما خانت هانت) ومنهم من قال: هذا مت تمام الحكمة والمصلحة وأسرار السريعة العظيمة، فإن باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار، لئلا يجنى عليها، إكراماً لبني آدم، وتعظيماً لمكانته، ورفعة لحرمته، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار، لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين كالحكمة عند ذوي العقول والألباب، ولهذا قال تعالى: جزاء بما كسبا نكالاً من اللّه، والله عزيز حكيم
. أي مجازاة على صنيعهما السيء في أخذهما أموال الناس بأيديهم، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك نكالاً من اللّه
أي تنكيلاً من اللّه بهما على ارتكاب هذا الجرم الشنيع الذي لا يلجأ إليه إلا النفوس الخبيثة التي رق دينها، ونسيت مراقبة اللّه لها، وباعت آخرتها بدنياها، فتعدت حدود اللّه من غير خوف ولا وجل، وتجرأت على أكل أموال الناس بالباطل. فكان من الحكمة، أن يقسو عليها الشرع في أحكامه حتى تردع عن غيها، وترجع عن إجرامها. والله عزيز