پایگاه تخصصی فقه هنر

الفقه علی المذاهب الاربعة-ج5-ص1770

أما في الخمر فلأن الغالب أن من يقبل على شرب الخمر، إنما يشربها مع أصحابه ويكون قصده من ذلك الشرب أن يستأنس برفقائه، ويسر بمحادثتهم ومكالمتهم، فأن غرضه من ذلك الإجتماع تأكيد الإلفة والمحبة، إلا أنه ينقلب في كثير من الأحيان إلى ضد مقصوده لأن الخمر يزيل العقل، وإذا ذهب العقل استولت الشهوة والغضب من غير مدافعة العقل، وعند استيلائهما تحصل المنازعة والمشاحنة بين المجتمعين، وربما أدت إلى الضرب والقتل والمشافهة بالفحش، وذلك يورث أشد العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع الواحد، والميسر، يجر صاحبه إلى الفقر والمسكنة حتى يصل به الحال أن يقامر على جسده وأهله، وولده بعد فقدان ماله فيصير من أعدى الأعداء لأولئك الذين كانوا يلاعبونه.

فظهر أن الخمر والميسر سببان عظيمان في إثارة العداوة، والبغضاء بين الناس، وتقطيع أوصال المجتمع، ولاشك أن العداوة والبغضاء تفضي إلى أحوال مذمومة، من الهرج والمرج والفتن، وفساد المجتمع الإنساني كله.

النوع الثاني – المفاسد المتعلقة بالدين، وإليه الإشارة بقوله عز وجل ويصدكم عن ذكر اللَّه وعن الصلاة

وهما روح الدين وعماده.

أما أن الخمر تمنع عن ذكر اللَّه فظاهر لأن شرب الخمر يورث الطرب، واللذة الجسمانية، والنفس إذا استغرقت في الملذات، غفلت عن ذكر اللَّه تعالى وأعرضت عن طاعته عز وجل.

وأما الميسر، فلأن إستغراق الشخص في العب مانع من أن يخطر بباله شيء سواه، وهي تصد اللاعب عن ذكر اللَّه، وتصرفه عن الصلاة، وتنسيه طاعة مولاه.

ولما بين اللَّه تعالى اشتمال شرب الخمر ولعب الميسر على هذه المفاسد الخطيرة في الدنيا والدين. قَالَ تعالى: فهل أنتم منتهون

هذا اللفظ وإن كن استفهاماً في الظاهر، إلا أن المراد منه هو النهي في الحقيق، وإنما حسن هذا المجاز لأنه تعالى ذم هذه الأفعال وبين قبحها لعباده، فلما استفهم بعد ذلك عن تركها، لم يسع المخاطب إلا الإقرار باترك.فكأنه قيل له: أتفعله بعد ما قد ظهر من قبحه؟ فصار قوله تعالى: فهل أنتم منتهون

جارياً مجرى تنصيص اللَّه تعالى على وجوب الإنتهاء، مقروناً بإقرار المكلف بوجوب الإنتهاء بدافع من تفسه.

واعلم أن هذه الآية دالة على تحريم شرب الخمر من وجوه:

أحدها: تصدير الجملة بلفظ إنما

وذلك لأنه للحصر، فكأنه تعالى قَالَ: لا رجس ولا شيء من عمل الشيطان إلا هذه الأربعة.

وثانيها: أنه تعالى قرن الخمر والميسر بعبادة الأوثان، حتى أصبح مثله، كما قَالَ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: (شارب الخمر كعابد الوثن).

وثالثها: أنه تعالى أمر بالإجتناب، وظاهر الأمر الوجوب.

ورابعها: أنه تعالى قَالَ: لعلكم تفلحون

جعل الإجتناب من الفلاح، وإذا كان الإجتناب فلاحاً كان الإرتكاب خيبة.

وخامسها: أنه شرح أنواع المفاسد المتولدة عنها في الدنيا والدين، وهي وقوع التعالدي، والتباغض بين الخلق وحصول الإعراض عن ذكر اللَّه تعالى وعن الصلاة.

وسادسها: قوله تعالى فهل أنتم منتهون

وهو من أبلغ ما ينتها به، كأنه قيل: قد تلي عليكم ما فيها من أنواع المفاسد والقبائح، فهل أنتم منتهون من هذه الصوارف، أم أتنم على ما كنتم عليه حين لم توعظوا بهذه المواعظ.

وسابعها: أنه تعالى قَالَ بعد ذلك وأطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول واحذروا