الفقه علی المذاهب الاربعة-ج4-ص1526
وخالفهم في ذلك بعض المجتهدين، كطاوس، وعكرمة وابن اسحاق، وعلى رأسهم ابن عباس رضي اللّه عنهم، فقالوا: إنه يقع به واحدة لا ثلاث، ودليل ذلك ما رواه مسلم عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأبي بكري، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم. وهذا الحديث صريح في أن المسألة ليست اجماعية، وهو كذلك فإنه رأي ابن عباس وطاوس وعكرمة، وبعض المجتهدين. ومن القواعد الأصولية المقررة أن تقليد المجتهد ليس واجباً، فلا يجب الأخذ برأي مجتهد بعينه، وحينئذ يجوز تقليد أي مجتهد من مجتهدي الأمة الإسلامية في قول ثبتت نسبته إليه، ومتى ثبت أن ابن عباس قال ذلك فإنه يصح تقليده في هذا الرأي كتقليد غيره من الأئمة المجتهدين على أننا إذا قطعنا النظر عن التقليد ونظرنا إلى الدليل في ذاته فإننا نجده قوياً، لأن الأئمة سلموا جميعاً بأن الحال في عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم كان كذلك، ولم يطعن أحد منهم في حديث مسلم، وكل ما احتجوا به أن عمل عمر وموافقة الأكثرين له مبني على ما علموه من أن الحكم كان مؤقتاً إلى هذا الوقت فنسخه عمر بحديث لم يذكره لنا، والدليل على ذلك الإجماع، لأن إجماع الصحابة يومئذ على الرضا بما عمله دليل على أنه أقنعهم بأن لديه مستنداً وليس من الضروري أن نعرف سند الإجماع، كما هو مقرر في الأصول، ولكن الواقع أنه لم يوجد إجماع، فقد خالفهم كثير من المسلمين، ومما لا شك فيه أن ابن عباس من المجتهدين الذين عليهم المعول في الدين، فتقليده جائز، كما ذكرنا، ولا يجب تقليد عمر فيما رآه، لأنه مجتهد وموافقة الأكثرين له لا تحتم تقليده، على أنه يجوز أن يكون قد فعل ذلك لتحذير الناس من ايقاع الطلاق على وجه مغاير للسنة فإن السنة أن تطلق المرأة في أوقات مختلفة على الوجه الذي تقدم بيانه، فمن تجرأ على تطليقها دفعة واحدة فقد خالف السنة، وجزاء هذا أن يعامل بقوله زجراً له.
وبالجملة فإن الذين قالوا: إن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع به واحدة لا ثلاث لهم وجه سديد وهو أن ذلك واقع في عهد الرسول، وعهد خليفته الأعظم أبي بكر. وسنتين من خلافة عمر رضي اللّه عنه واجتهاد عمر بعد ذلك خالفه فيه غيره، فيصح تقليد المخالف، كما يصح تقليد عمر، واللّه تعالى لم يكلفنا البحث عن اليقين في الأعمال الفرعية لأنه يكاد يكون مستحيلاً.
أما إذا قيد الطلاق بعدد دون الثلاث. فلا يخلو إما أن يصرح بذلك العدد أو ينويه، وعلى كل إما أن يكون الطلاق صريحاً أو كناية، وفي ذلك كله تفصيل المذاهب (2).
————————–
(1) (الحنفية – قالوا: العبرة في عدد الطلاق للنساء فلو تزوج الحر أمة يملك عليها طلقتين فقط لأن الأمة تنقص عن الحرة بواحدة، ولو تزوج العبد حرة، فإنه يملك ثلاث طلقات لأن الحرة لها ثلاث طلقات، فالرجل وإن كان يملك ولكن عدده يختلف بالنسبة للحرة والأمة فللحرة ثلاث ولو كان زوجها رقيقاً، وللأمة ثنتان ولو كان زوجها حراً).
(2) (الحنفية – قالوا: إذا قيد الطلاق الصريح بعدد صريح فإنه يعامل بذلك العدد، فإذا قال لها: أنت طالق اثنتين لزمه طلقتان بذكر العدد، فلو قال: أنت طالق وسكت، ثم قال: ثلاثاً أو اثنتين، فإن كان سكوته لضيق النفس لزمه العدد، وإن سكت باختياره فإنه لا يلزمه إلا واحدة، ومثل ذلك ما إذا كرر اللفظ بدون ذكر العدد، كما إذا قال لها: أنت طالق طالق فإنه يلزمه بذلك طلاقان متى كانت المرأة مدخولاً بها، أما إذا كانت غير مدخول بها فإنها تقع بها واحدة، لأنها تبين بها، فإذا قال: إنه نوى بالثاني الإخبار عن الأول ولم ينو طلاقاً ثانياً فإنه يصدق ديانة، بمعنى أنه لا يقع طلاق بينه وبين اللّه، ولكن القاضي لا يصدقه بل يحكم عليه بالطلقتين. ومثل ذلك ما إذا قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أو قال لها: قد طلقتك، قد طلقتك. أو قال لها: أنت طالق وقد طلقتك.