الفقه علی المذاهب الاربعة-ج4-ص1410
، فإن لهم أن يقولوا: إننا لا نعلم أن هذه العقائد، أو هذه الأقوال والأعمال لا ترضيك، فتكون لهم المعذرة، ولا يكون للّه عليهم الحجة البالغة، ولا يمكن أيضاً قصر رفع العذاب عنهم على الأقوال والأعمال بحيث لا يعذبون عليها هي، أما معرفة اللّه تعالى وتوحيده فإنهم يعذبون عليها وذلك لأن هذا لا دليل عليه مطلقاً، بل الدليل قائم على خلافه، وهو كلمة الضلال، فإن اللّه دائماً يصف المشركين بالضالين من أجل الشرك وعبادة الأوثان، أما أعمالهم الفرعية من معاملات ونحوها فقل أن يعرض لها إلا على طريق التهذيب والتأنيب، انظر مثلاً إلى ما كانوا عليه من فساد في مسألة الأنكحة وغيرها، فلما أراد اللّه أن يهذبهم شرع لهم بعد إسلامهم ما فيه سعادتهم، فأقرأ قوله تعالى: ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً
وقوله: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى
، وآية الدين. وآية المواريث. والوصية. والعدة. وإباحة النساء الأربع دون سواها. والصيام. والصلاة. والحج، فإن كل هذا جاء بعد الإسلام، ولم يكن محل نزاع بين المشركين وبين الرسل، بل كل النزاع كان مقصوراً على التوحيد، فالضلال المذكور في الآية من ضلال الشرك وعدم معرفة الإله، فهؤلاء الضالون لا يعذبهم اللّه إلا إذا أرسل لهم رسولاً بلا نزاع.
وبعد، فلم يثبت أن آباء النبي كانوا مشركين، بل ثبت أنهم كانوا موحدين، فهم أطهار مقربون، ولا يجوز أن يقال: إن أبوي النبي صلى اللّه وعليه وسلم كافران على أي حال، بل هما في أعلى فراديس الجنات.
أما الكلام في حديث مسلم فقد عرفت أن المالكية والأشاعرة، قد احتجوا بقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً
وظاهر اللغة والعرف والسياق تفيد أن الرسول هو الإنسان الذي يوحى إليه من عند اللّه تعالى ويؤمر بالتبليغ، فتأويله بالعقل تعسف واضح، ومتى نطق كتاب اللّه بأمر يؤيده العقل وجب تأويل الأحاديث التي تخالفه إذا أمكن تأويلها، وإلا وجب العمل بما يقتضيه كتاب اللّه تعالى.
وحديث مسلم هذا يمكن تأويله، وهو أن المراد بأبي النبي صلى اللّه وعليه وسلم أبو لهب، فإن اللّه تعالى قد أخبر أنه في النار قطعاً، والأب يطلق في اللغة على العم ويؤيد هذا التأويل نص الحديث وهو: ” أن رجلاً قال: يا رسول اللّه أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفا دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار”، فظاهر هذا يفيد أن أحد المسلمين سأل عن مقر أبيه الذي مات مشركاً، ولم يجب دعوة النبي صلى اللّه وعليه وسلم، فقال له النبي صلى اللّه وعليه وسلم: ” إنه في النار” فظهر على وجه الرجل طبعاً أمارة الحزن والأسف، فولى آسفاً، فأراد صلى اللّه وعليه وسلم أن يزيل ما علق بنفس الرجل من أسى، فاستدعاه ثانياً وقال له:” إن أبي وأباك في النار” ومعنى هذا أنه إذا كان أبوك في النار لأنه لم يؤمن بي، فلا تجزع لأن أبي أنا، وأنا رسول اللّه، في النار لأنه لم يؤمن بي، وهو أبو لهب طبعاً، فإن اللّه تعالى قد أخبر نبيه بأنه لم يؤمن، فهو من أهل النار حتماً.