الفقه علی المذاهب الاربعة-ج4-ص1409
بوجه آخر، فقال إن المراد بالعذاب الاستئصال في الدنيا، فاللّه تعالى لا يهلك الأمم في الدنيا إلا بعد أن يرسل لهم الرسل فلا يصدقوهم ويضطهدوهم، وعند ذلك يهلكهم اللّه في الدنيا، أما عذاب الآخرة فإنه يقع على من مات مشركاً، ولو لم يرسل اللّه لهم رسولاً.
ولكن الواقع أن الآية تدل على عكس ذلك على خط مستقيم، وإليك البيان:
قال تعالى: من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً
، فاللّه سبحانه قصر هداية الشخص وضلاله على نفسه، وظاهر أن المراد قصر ما يترتب عليهما من نفع وضرر، فكل ما يترتب على هداية المرء من منفعة، وكل ما يترتب على ضلاله من ضرر مقصور عليه وحده: وإذا كان كذلك فهل يتحقق هذا المعنى في الدنيا فقط. أو في الآخرة فقط. أو فيهما معاً؟ أما أنا فلا أفهم إلا أنه يتحقق في الآخرة فقط، وذلك لأن منافع هداية الناس واستقامتهم ليست مقصورة عليهم وحدهم في الدنيا، بل تتعداهم إلى أبنائهم وأهليهم وعشيرتهم، بل وتتعداهم إلى المجتمع، وهذا واضح وكذلك مضار الضلال ليست مقصورة على الضالين فقط. فكم صرع المضلون غيرهم وأوردوهم موارد الهلاك و الفناء. وشر الضلال في تربية الأبناء والأهل، وآثاره ظاهرة في المجتمع وكذلك إذا قصرنا المنافع على ما يسوقه اللّه تعالى من خير وشر، فإن الخير الذي يجيء بسبب الصالحين لا يقتصر عليهم بل يعم غيرهم، والسنة الصحيحة مملوءة بهذا، والشر الذي ينزل بسبب الضالين لا يقتصر عليهم، ولهذا قال تعالى: اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة
.
وحينئذ لا يفهم من الآية غلا أن المراد بالمنافع الثواب الأخروي وبالمضار العذاب الأخروي ولذا قال تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى
بياناً لمعنى القصر المذكور، فهو سبحانه يقول: كل واحد ينال جزاء عمله من خير أو شر، قال تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره
، فلا يعطى أحد ثواب عمل الآخر، ولا يحمل أحد عقاب وزر صاحبه، وكل هذا في الآخرة بدون نزاع، أما في الدنيا فإن صلاحها من أجل الصالحين يفيد غيرهم من الفاسقين والكافرين، وفسادها بالخراب يؤذي أهلها، سواء كانوا صالحين أو فاسدين.
وبعد أن قرر اللّه ذلك أراد أن يظهر منته على عباده، فقال عز وجل: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً
، فلا يؤاخذ اللّه الناس بضلالهم، ولا يعذبهم في الآخرة على عقائدهم وأقوالهم وأعمالهم التي لا يرضاها إلا بعد أن يرسل رسلاً لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل