الفقه علی المذاهب الاربعة-ج4-ص1408
، وهكذا، فإذا استطاعوا أن يأتوا بكلمة رسول في القرآن على غير هذا المعنى كان لهم العذر، وهذا هو المعقول المطابق لسنن اللّه في خلقه، فإن اللّه سبحانه قد أرسل الرسل من بدء الخلق إلى أن استقرت وختمت بالشريعة الإسلامية التي لا تقبل الزوال، بل جعل اللّه في طبيعتها ما يجعلها تنمو وتزداد كلما تجدد الزمن، وليس من المعقول أن تقول: إن اللّه أرسل الرسل لتبليغ الشرائع الفرعية وتبليغ أحوال الآخرة فحسب، أما معرفة اللّه الواحد المنزه عن كل ما يليق به فواجبة على الناس بطبيعتهم. فعليهم أن يعرفوا ذلك من غير الرسل وإلا كانوا معذبين، لأن هذا القول ينقضه الواقع القطعي، فإن أول شيء اهتم به الرسل هو توحيد الإله. بل كان كل همهم منحصراً في توحيد الإله، ولولا ما أودعه اللّه في الرسل من أسرار وقوى مؤثرة فوق طبائع البشر، لما وجد على ظهر الأرض موحد، اللّهمّ إلا شواذ العالم في الذكاء النادر والفطنة الباهرة، أمثال زيد بن عمرو بن نفيل. وقس بن ساعدة، وكبار فلاسفة العالم الذين لا يتجاوزون أصابع اليد فهل يعقل أن اللّه العليم بطبائع عباده يلزمهم بالتوحيد بدون إرسال رسل؟ إن ذلك يكون قصراً لنعيمه على أفراد قلائل من خلقه، وتعذيب الباقين، وأين هذا من كرم اللّه ورحمته بعباده؟ أين هذا من قوله: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً
وقوله: لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل
أي دليل يخصص الآية الثانية بغير توحيد الإله؟! فإن اللّه سبحانه جعل للناس الحجة عند عدم إرسال الرسل، سواء كان ذلك في العقائد أو في غيرها، ومن الغريب أن مقاومة الرسل ما كانت إلا في توحيد الإله، فإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، ولوط، وهود، وصالح، وشعيب وغيرهم لم يضطهدهم قومهم إلا من أجل معرفة الإله وتوحيده، ولم يظهر جهادهم إلا في توحيد الإله ومعرفته، ونظرة واحدة إلى كتاب اللّه تبين مقدار عنايته بمحاربة الوثنية، فقد ملئ بالأدلة الكونية وضرب الأمثال المحسة والحجج القطعية على وجود الإله ووحدانيته، ومع ذلك فقد كانوا من أشد الناس عناداً وإصراراً، وغفلة عن الإله ووحدانيته، فهل مثل هؤلاء كانت عقولهم كافية في معرفة الإله؟
ولم توجد أمة من الأمم في زمن من الأزمنة على غير هذا المنوال، فنظرية أن العقل كاف في معرفة الإله بدون رسل تتصادم مع طبيعة المخلوقات بدون استثناء اللّهمّ إلا إذا قلنا: إن اللّه خلق الناس أجمعين ليعذبهم ويقصر نعمته على أفراد قلائل لا تتجاوز الأصابع عداً، كلا إن اللّه أرحم من أن يعذب عباده من غير أن يبين لهم طريق الهداية والرشاد.
فالحق أن أهل الفترة ناجون وإن غيروا وعبدوا الأصنام، كما يقول الأشاعرة والمالكية وبعض محققي الحنفية، كالكمال بن الهمام، والماتردية قد اختلفوا أيضاً، فمنهم من قال: إنهم ناجون، ومنهم من اشترط لنجاتهم أن يمضي زمن يمكنهم النظر فيه، وأن لا يموتوا وهم مشركون بعد النظر، ولما كان الماتردية، والحنفية شيئاً واحداً، فقد أول بعضهم ما ذهب إليه بعض الماتردية من نجاتهم بأنه محمول على ما إذا لم يموتوا وهم مشركون، ولا أدري لهذا الحمل معنى، لأن المفروض أنهم ناجون بعد موتهم مشركين، أما إذا ماتوا موحدين فلا خلاف فيه لأحد فالذي قال من الماتردية: إنهم ناجون لا يريد به إلا نجاتهم بعد موتهم مشركين، وإلا كان هازلاً، لأن من قال: لا إله إلا اللّه مخلصاً دخل الجنة، وإن قضى طول عمره مشركاً باتفاق المسلمين.
هذا وقد أول بعض علماء الحنفية قوله تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً