الفقه علی المذاهب الاربعة-ج2-ص893
يرجع سبب الحجر في الشريعة الإسلامية على التحقيق إلى شيء واحد، وهو مصلحة النوع الإنساني كما هو الشأن في كل قضية من قضاياها الكريمة، فهي دائماً ترمي في تشريعها إلى ما فيه سعادة الإنسان جماعة وأفراداً. فمن قواعدها العامة وأسسها القويمة أنها قضت بضرورة التعاون بين الناس، فعرضت على القوي أن يعين الضعيف بقدر ما يتاح له، وحتمت على الكبير أن يساعد الصغير الذي يتولى أمره ويخلص له كل الإخلاص حتى لا تضيع عليه فرصة ينتفع بها في دينه ودنياه. فمن ابتلاه اللّه من الأطفال بفقد من يعطف عليه عطفاً طبيعياً من والد أو أخ أو قريب كان له في غيره عوضاً، فقد كلف اللّه الحاكم أن يختار له من يقوم يأمر تربيته، والنظر في مصلحته والعمل على تنمية ثروته، كما يقوم بذلك أقرب الناس إليه والصقهم به. وقد أوصى اللّه تعالى الأولياء والأوصياء على اليتامى والمساكين، وحذرهم عاقبة إهمالهم والطمع في أموالهم، بما تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ويخافون بطشه وعقابه. وقال تعالى: وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا اللّه وليقولوا قولاً سديداً، إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً، إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً
وقال تعالى: وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم وقال تعالى: وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم، ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا، ومن كان غنياً فليستعفف، ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف
وفي الآية دلالة على أنه يصح للوصي الفقير أن يأخذ أجر عمله من مال القاصر بما هو معروف بين الناس، فانظر كيف حذر اللّه الأوصياء في الآية الأولى بما هو ممكن قريب الوقوع؟ وكيف رغبهم في حكم معاملة القاصر؟ فإن الوصي الذي له أولاد صغار ضعاف قد يموت ويتركهم، فلينظر على أي وجه يحب أن يعامل الناس أولاده فيعامل به من أقامه اللّه وصياً عليه، ليعلم أنه إذا اتقى اللّه تعالى في قوله وفعله كان قدوة حسنة لأبنائه فينقلون عنه الفضيلة، فضلاً عما في ذلك من ترك حسن الذكرى وطيب الأثر ولذلك في قلوب الناس منزلة رفيعة تحبب إليهم مودة ذريته الضعيفة، ويسهل عليهم خدمتهم.
ثم انظر إلى الوعيد الشديد للطامعين في أموال اليتامى الذي يقومون عليهم، وأي زجر أشد من أن شبه اللّه ما يأكلون من ذلك بالنار التي توقد في البطون، فهم وإن كانوا يجدون في أكله لذة مؤقتة في هذه الحياة الدنيا ولكنهم سيصلون سعيراً يوم القيامة تلتهب في أحشائهم، فيعلمون أنهم إنما كانوا يأكلون ناراً وجحيماً. وفي ذلك منتهى التحذير والتخويف من قربان أموال اليتامى. ولهذا الكلام بقية ذكرناها في حكمة تشريع الحجر في الجزء الثاني من كتاب الأخلاق.