الفقه علی المذاهب الاربعة-ج1-ص67
فمكروهات الوضوء، كراهة تحريمية هي ترك سنة مؤكدة من السنن التي تقدم ذكرها، ومكروهاته كراهة تنزيهية هي ترك مندوب، أو مستحب، أو فضيلة من الأمور التي ذكرناها تحت ذلك العنوان، على أن بعض الحنفية عد بعض المكروهات ليقاس عليها غيرها، فمنها ضرب الوجه بالماء بشدة، كما يفعل بعض العامة، فإنه يتناول الماء بيديه، ثم يضرب به وجهه بعنف، كأنه يريد أن يقتص من نفسه، وفعل هذا مكروه، ومنها المضمضة والاستنشاق باليد اليسرى، والامتخاط باليد اليمنى؛ ومنها تثليث مسح رأسه، أو أذنيه بماء حديد، بل المطلوب أن يمسح رأسه بماء جديد، ثم يعيد مسحها بيده من غير أن يأخذ ماء جديداً، ثم يمسح أذنيه كذلك، من غير أن يأخذ لها ماء جديداً، فإذا كرر المسح بماء جديد، فقد فعل مكروهاً، ومنها أن يتخذ لنفسه إناء خاصاً يتوضأ منه، دون غيره، كما يكره أن يعين لنفسه مكاناً خاصاً، هكذا قال الحنفية فيكتبهم، ولكن قواعدهم تخصص هذا الحكم بما إذا لم يخف على نفسه من عدوى المرض، أو ظن أن في حجز إناء خاص به صيانة له من النجاسة. أو نحو ذلك من الأغراض المشروعة، فإنه لا يكره مطلقاً، بل قد يلزمه ذلك إن ظن إيصال الضرر إليه، ومن المكروهات أن يزيد عن ثلاث مرات في غسل وجهه ويديه؛ فإن زاد على ذلك؛ كأن غسل وجهه أربع مرات، أو خمس مرات، فلا يحلو إما أن يعتقد أن هذه الزيادة مطلوبة منه في الوضوء؛ أو غير مطلوبة، فإن اعتقد أنها مطلوبة منه في أعمال الوضوء كانت الكراهة تحريمية؛ وإن اعتقد أنها غير مطلوبة، وإنما يفعل ذلك لتبرد في زمن الحر، أو النظافة، أو نحو ذلك، فإن الكراهة تكون تنزيهية، وذلك لأن التنظيف، والتبرد له وقت غير وقت العبادة، وكما يكره الإسراف في الوضوء كراهة تنزيهية، كذلك يكره التقتير كراهة تنزيهية، والتقتير عند الحنفية هو أن يكون تقاطر الماء عن العضو المغسول غير ظاهر، وهذا مخالف للمالكية، كما ستعرفه بعد.
وهذا كله فيما إذا كان الماء الذي يتوضأ منه مملوكاً له. أما إذا كان موقوفاً. كما دورات مياه المساجد ونحوها؛ فإن الإسراف فيه حرام على كل حال: ومنها أن يتوضأ بموضع متنجس، خوفاً من أن يصيبه شيء من النجاسة بسبب سقوط الماء عليها، وتلوثه بها.
المالكية قالوا: مكروهات الوضوء أولاً ترك سنة من السنن المتقدمة. وقد عرفت أن السنة عندهم ما لا يعاقب على تركها؛ ومع هذا فمنها ما هو مؤكد، ومنها ما هو غير مؤكد، ويقال له فضيلة، على أنهم أطلقوا في مكروهات الوضوء؛ فلم يقولوا: إنها كراهة تنزيه، أو غيره. والقاعدة في مذهبهم أنهم متى أطلقوا انصرفت الكراهة إلى التنزيهية؛وهي خلاف الأولى: وقد عدوا من المكروهات الإسراف في صب الماء، بأن يزيد على الكفاية، كأن يزيد على ذلك إذا اعتقد أنها من الوضوء. أما إن كانت الزيادة للنظافة، أو التبرد، فلا كراهة ما لم يكن الماء موقوفاً على الوضوء، وإلا حرم الإسراف فيه، كما إذا كان مملوكاً للغير؛ ولم يأذن باستعماله كما تقدم في “مكروهات المياه”: ومنها مسح الرقبة بالماء؛ لما في ذلك من الزيادة التي يأمر بها الدين، لا فرق في ذلك بين العنق وبين الرقبة من أمام؛ خلافاً للحنفية في ذلك. فإنهم يقولون: إن مسح العنق بعد مسح الأذنين بدون ماء جديد سنة، أما مسح الحلقوم عند الحنفية فإنه بدعة، ولم ينصوا على كراهتها، ومنها أن يتوضأ في موضع متنجس بالفعل، أو موضع أعد للنجاسة، وإن لم يستعمل، كالمرحاض الجديد قبل استعماله؛ ومنها الكلام حال الوضوء بغير ذكر اللّه تعالى، وهذا متفق عليه في المذاهب، إلا أن الشافعية قالوا: إنه ليس بمكروه، ولكن عدم الكلام أولى.