الفقه علی المذاهب الاربعة-ج1-ص3
وقد أجاب عن الأول بأن الريح مستقذر حساً بدون نزاع، وهو وإن لم
يكن مرئياً بحاسة البصر فهو مدرك بحاسة الشم، وهو قبل أن يخرج مرَّ
على النجاسة الحسية، على أن الذي يقول: إن الريح لا ينقض وإن البول
أو الغائط يوجبان غسل محلهما فقط، يلزمه أن يقول: إن الإنسان لا
يلزمه أن يتوضأ في حياته إلا مرة واحدة، فإن النوم ليس بنجاسة،
والريح ليس بنجاسة، والبول والغائط نجاسة محلية فقط، ولا يخفي أن
هذا الكلام فاسد لا قيمة له، لأن الواقع أن اللّه قد شرع الوضوء لمنافع
كثيرة: منها ما هو محسٌّ مشاهد من تنظيف الأعضاء الظاهرة
المعروضة للأقذار خصوصاً الفم والأنف. ومنها ما هو معنوي: وهو
الامتثال والخضوع للّه عز وجل فيشعر المرء بعظمة خالقه دائماً، فينتهي
عن الفحشاء والمنكر، وذلك خير له في الدنيا والآخرة، فإذا كان الوضوء
لا ينتقض فقد ضاعت مشروعيته وضاعت فائدته.
وأجاب عن الثاني بأن قياس البول والغائط على المني قياس فاسد واضح
الفساد، لأن المني يخرج من جميع أجزاء البدن باتفاق، ولا يخرج غالباً
إلا بعد مجهود خاص، ثم بعد انفصاله يحصل للجسم فتور ظاهر،
وبديهي أن الغسل يعبد للبدن نشاطه ويُعوِّض عليه بعض ما فقده،
وينظف ما عساه أن يكون قد علق بجسمه من فضلات، ومع هذا كله فإن
مشروعية الغسل قهراً عقب الجنابة من محاسن الشريعة الإسلامية، فإن
الإنسان لا يستغني عن النساء فيضطر إلى تنظيف بدنه، بخلاف ما إذا لم
يكن الغسل ضرورياً، فإنه قد يكسل، فتغمره الأقذار، ويؤذي الناس
برائحته، فكيف يقاس هذا بالبول المتكرر المعتاد الذي يخرج من مكان
خاص بدون مجهود؟؟، فالقياس فاسد من
جميع الوجوه، وعلى كل حال فإن العبادات يجب أن يؤديها الإنسان
خالصة للّه عز وجل بدون أن ينظر إلى ما يترتب عليها من منافع
دنيوية، وإن كانت كلها منافع.
المالكية قالوا: الطهارة صفة حُكمية توجب لموصوفها استباحة الصلاة
بثوبه الذي يحمله، وفي المكان الذي يصلي فيه، ومعنى كونها صفة أنها
صفة اعتبارية، أو معنوية قدَّرَها الشارع شرطاً لصحة الصلاة ونحوها،
وهذه الصفة إن قامت بالمكان الذي يريد الصلاة فيه أباحت له الصلاة
فيه، وإن قامت بالثوب الذي يحمله أباحت له الصلاة به، وعلى كل حال.
فهي أمر معنوي تقديري لا أمر مُحس مشاهد، ويقابلها بهذا المعنى
أمران: أحدهما النجاسة، وهي صفة حكمية توجب لموصوفها منع
استباحة الصلاة بما يحمله من ثوب. أو في المكان الذي قامت به.
ثانيهما: الحدث، وهو صفة حكمية توجب لموصوفها منع استباحة الصلاة
له، بمعنى أن النجاسة صفة تقديرية، تارة تقوم بالثوب فتمنع الصلاة به،
وتارة تقوم بالمكان فتمنع بالمكان فتمنع الصلاة فيه، وتارة تقوم